لا تُحصَر تبعات الحرب اليمنية بمعاصريها الذين دفعوا ويدفعون ثمناً باهظاً على كلّ المستويات، فالأجيال المقبلة لن تسلم هي الأخرى من تأثيرات خطرة، لا سيّما في ظلّ تهتك النسيج الاجتماعي والتنامي المخيف للنبرة التمييزية. فإلى جانب اتساع رقعة الفقر إلى مستويات قياسية، ساهمت عوامل عدّة في تفكيك النسيج الاجتماعي الهشّ في اليمن، والسبب في ذلك يعود إلى الانقسام الحاد بين أطراف الصراع القائم اليوم.
وبعد أكثر من سبعة أعوام، لا يبدو سهلاً ترميم الشروخ التي أحدثتها الحرب بين الناس. وبالتالي يُعَدّ رتق الشرخ بين الناس تحدياً أعظم من إعادة إعمار ما خلفته المعارك من دمار. وبحسب ما رصدته "العربي الجديد" في محافظات يمنية مختلفة، فإنّ الانقسامات التي تسبّبت فيها الحرب لا تأتي على مستوى المدن والقبائل فحسب، بل هي امتدّت إلى الأحياء السكنية الصغيرة وأحياناً إلى داخل الأسرة الواحدة التي تتعدّد فيها آراء أفرادها.
وقد دفع الخطاب التمييزي ولغة الكراهية يمنيين كثيرين إلى النزوح والهجرة القسرية من مدن ومجتمعات احتضنتهم على مدى عقود، وذلك من جرّاء تصنيفهم في خلال الحرب على أساس مناطقي، في حين راحت الثقة تتلاشى بين الناس بشكل ملحوظ. وقد أدّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الدور الأكبر في الترويج للخطاب التمييزي.
ويشهد اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم، إذ يحتاج نحو 23.7 مليون شخص إلى مساعدة إنسانية، بمن فيهم نحو 13 مليون طفل، بحسب آخر بيانات الأمم المتحدة. وتتمحور خطط الاستجابة الإنسانية حول التغذية والصحة والنزوح، لكنّ متابع الأزمة اليمنية عن قرب يلاحظ أنّ اليمنيين لم يدفعوا ضريبة الحرب على شكل خسائر بشرية ومادية فحسب، فالأضرار النفسية والمعنوية التي أحدثها الانقسام المجتمعي كانت أفدح بكلّ المقاييس.
وقد تحوّل اليمن الذي كان يفاخر بوحدة أراضيه، منذ عام 1990، إلى بلد مقطّع الأوصال تحكمه فصائل وجماعات مسلحة. وإلى جانب الانقسام الشامل على مستوى المؤسسات الحكومية والعملة الوطنية، صار الانتقال من مدينة إلى أخرى أشبه بالسفر إلى دولة مجاورة، مع إمعان حواجز التفتيش في تقييد حرية التنقل وإذلال الأفراد.
وتُتّهم أطراف النزاع بتغذية الانقسام الحاصل بين اليمنيين. وبحسب الناشط المدني في مدينة تعز محمد المشرقي، فإنّ "اللجوء إلى المذهبية والطائفية كسلاح في المعركة الدائرة بين المتحاربين، كان الجريمة الأبشع بحقّ الحاضر والمستقبل". ويوضح المشرقي لـ"العربي الجديد" أنّ "أطراف الصراع استخدمت منابر المساجد والمناهج الدراسية ووسائل الإعلام لتسويق خطاب الكراهية والعمل على اغتيال قيم المواطنة والتعايش بين اليمنيين، وذلك بهدف شرعنة المعارك العبثية واستقطاب مزيد من المقاتلين للدفاع عن عناوين وأهداف وهمية".
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فبدلاً من إحياء مناسبات وطنية من شأنها تعزيز الولاء لليمن الواحد، عمد الحوثيون على سبيل المثال إلى إحياء مناسبات دينية يغلب عليها الخطاب الطائفي. وجنوباً، شرع الانفصاليون بمحاكاة التجربة الحوثية في صنعاء ومدن الشمال اليمني، فرفعوا الأعلام التشطيرية فيما ساد الخطاب المناطقي الذي يهدف إلى شيطنة اليمنيين المتحدّرين من الأراضي الشمالية، وصولاً إلى تهجيرهم قسراً، خصوصاً العمّال منهم والباعة المتجوّلين.
وفي هذا الإطار، يخبر عامل في متجر لبيع الملابس الجاهزة في عدن "العربي الجديد" أنّ "أكثر الممارسات التمييزية التي نتعرّض لها تحصل عند حواجز التفتيش على مداخل مدينة عدن، إذ يتعمد بعض العناصر توجيه إهانات وشتائم تمييزية، في حين يتراجع هذا السلوك في داخل المدينة".
ويرى مراقبون أنّ اليمن لن يتعافى مجدداً إلا عند وضع الحرب أوزارها، وقيام مؤسسات دولة حقيقية تعمل على تعزيز الهوية الوطنية عبر مؤسسات التعليم، والبدء في توزيع عادل للمناصب والثروات بين مختلف اليمنيين وصدور قوانين تجرّم التمييز على أساس الجنس والطائفة والمعتقد.
وبحسب الصحافي أحمد زيد، فإنّ "الحلّ في الوقت الراهن على أقلّ تقدير، يكمن في ضرورة قيام الجماعات المسلحة بترشيد خطابها وتوجيه قواعدها بعدم تأطير الصراع على أساس سنّي ـ شيعي، كما هو حاصل منذ بدء الحرب"، مشيراً لـ"العربي الجديد" إلى "تسجيلات مصوّرة ملغومة بعبارات طائفية مثل المجوس والروافض واليهود والدواعش والمنافقين". يضيف زيد أنّه "من المؤسف أن تصل بك الحال في اليمن لتصير شخصاً منبوذاً في نظر أناس، بناءً على لهجتك فقط، حتى وإن لم يصدر عنك أيّ رأي سياسي أو تنحاز إلى أيّ طرف كان".
في سياق متصل، تشكو أقليات عدّة في اليمن من إقصاء وتهميش من قبل السلطات، مع حرمانها من تقلّد مناصب رفيعة في مؤسسات الدولة أو الحصول على عضوية مجلسَي الشورى والنواب، وهو ما بدا واضحاً عند تأسيس كيان حقوقي تحت مسمّى "المجلس الوطني للأقليات". وبحسب ما جاء في بيان أصدره المجلس في منتصف مارس/ آذار الماضي، فقد أُقصيت أقليات عرقية ودينية من المشاركة في المشاورات السياسية التي دعا إليها مجلس التعاون الخليجي في الفترة الممتدة ما بين 29 مارس الماضي والسابع من إبريل/ نيسان الماضي.
وتعيد رئيسة منظمة مواطنة لحقوق الإنسان في اليمن رضية المتوكل أسباب تفشّي الخطاب التمييزي إلى "سقوط الدولة وضياع دور القانون وسيطرة الجماعات المسلحة بعد الحرب". وتقول المتوكل لـ"العربي الجديد" إنّ "الخطاب استخدم على مستوى تمييزي، عرقي ومذهبي، خصوصاً من قبل أطراف النزاع وأتباعها من الكيانات المنظّمة. لكنّ الناس العاديين ما زالوا على الرغم من كلّ ذلك يحافظون على الانسجام الاجتماعي". تضيف المتوكل أنّ "كلّ حوادث التمييز كانت في الأغلب منظمة وتعبّر عن توجّه سلطة معيّنة، ولا بدّ من أنّها حفّزت مجموعة معيّنة من الناس العاديين، لكنّها لم تجد طريقها إلى كلّ اليمنيين الذين يشبهون بعضهم في كلّ المدن شمالاً وجنوباً". وعلى الرغم من تفاؤلها إذ "يحافظ المواطن اليمني على نسيجه الاجتماعي على الرغم من كلّ ما يمرّ به من ظروف"، تؤكد الحقوقية اليمنية أنّ الخطاب التمييزي "قد يتفشّى مع استمرار الحرب وبشكل أكثر خطورة على المجتمع".