تمتلك محافظة تعز جنوب غرب اليمن، مخزونا أثريا وتاريخيا، تعود لعصور زمنية مختلفة، منحتها عراقة ومكانة مرموقة، تجسد أدوارها في مراحل قديمة ومعاصرة من تاريخ البلاد.
وتبرز مدينة المخا الواقعة غرب مدينة تعز، كواحدة من أهم المدن الأثرية ذات الميزة الاستراتيجية لإطلالتها على البحر الأحمر، وموقعها على بعد 75 كيلومترا من باب المندب، حيث ممر الملاحة الدولي.
واكتسبت المدينة شهرتها من ميناء المخا المشهور الذي يعد أقدم الموانئ ومن أهم المراكز التجارية الواقعة على البحر الأحمر، لتصدير البن اليمني قديما، والذي أخذ اسمه من هذا الميناء وما زال يعرف باسمه "موكا".
أما قلعة القاهرة، التي تطل على مدينة تعز من السفح الشمالي لجبل صبر، فهي أحد الشواهد التاريخية على مكان تعز، إذ تشير مصادر تاريخية إلى أنها تعود إلى عصور ما قبل الإسلام، فيما تذهب مراجع إسلامية بتاريخ القلعة إلى بداية الدولة الصليحية، وكانت نواة للدولة حينها.
معالم ومآثر زاخرة
وفي هذا السياق، يؤكد أحمد جسار، مدير إدارة الآثار، ونائب مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بتعز، أن مدينة تعز تزخر بالعديد من المعالم والمآثر التاريخية والتي تعود الى عهود زمنية مختلفة، من أبرزها جامع ومدرسة المظفر، وكذلك مدرسة الأشرفية ومدرسة المعتبية والتي تقع في مركز المدينة القديمة، وتعود إلى عهد الدولة الرسولية أي إلى ما قبل 800 عام من الشموخ.
وقال في حديث لـ"عربي21 لايت" إن تلك المعالم تعكس مدى اهتمام ملوك وأمراء ونساء الدولة الرسولية بالعلم ومدى الترف والبذخ الذي انعكس في زخارف ونقوش تلك المآثر الدينية في عهدهم.
وأضاف أن هناك مسجد قبة الحسينية، وهو أحد الأضرحة التي تعود إلى عهد الدولة العثمانية، أي إلى ما قبل 400 عام، والتي تعد تحفة معمارية نادرة مزجة بين الفن اليمني والفن العثماني في عمارتها.
وأشار مدير مكتب الآثار بتعز إلى قلعة القاهرة، التي تبرز كمعلم شامخ، يقدر عمرها بألف عام وذلك حسب المصادر التاريخية وما ذكره المؤرخون أنها تعود الى عهد الدولة الصليحية.
لكنه استدرك قائلا: "كأخصائيين في مجال الآثار ونسبة إلى ما تم العثور عليه من اللقى الأثرية أثناء أعمال التنقيب في قلعة القاهرة، إضافة إلى الشواهد المعمارية في بعض جدران القلعة، تأكد أن "بناءها يعود إلى عصور ما قبل الإسلام وتحديدا إلى الدولة الحميرية".
وبحسب المسؤول اليمني فإن تعز تحوي عدد من القصور مثل قصر صالة وقصر العرضي وقصر البدر والتي تعود عصر الدولة المتوكلية.
وقال إنها تمتلك مخزونا من المعالم التاريخية والتي يطول الحديث عنها مثل "مدينة ثعبات" التي تعد مدينة الملوك والتي اندثر أغلب معالمها العائدة إلى عصر الدولة الرسولية، ولم يتبقى منها سوى بعض الأنقاض والمعالم الشاهدة عليها مثل عدد من البرك والشذروانات ( نافورة )، إلى الأسوار التي كانت تحيط بالمدينة، إضافة إلى عدد من الأبنية المدفونة والتي هي بحاجة إلى أعمال تنقيب فيها.
تدمير جزئي وكلي
ونوه جسار إلى أن هذه المعالم والمآثر التاريخية، تعد في قائمة الخطر جراء الحرب المدمرة والتي دمرت العديد من تلك المعالم ومنها قلعة القاهرة وقصر صالة وقصر العرضي وقصر البدر، بفعل القصف الذي تعرضت له.
فيما هناك معالم تم نسفها ودمرت كليا مثل مسجد الشيخ عبدالهادي السودي الذي تم تفجيره بالألغام والعبوات الناسفة وهو يعود إلى عهد الدولة العثمانية إلى ما قبل 400 عام، وكذلك استراحة الموائد أو ما يطلق علية "قبة الشبزي" والتي تم تدميرها أيضا أثناء الحرب، كما قال جسار
ولفت إلى أن هناك بعض المعالم التي طاولها التدمير بشكل جزئي مثل معلم باب موسى، وقبة الحسينية ومنارة الأشرفية في تعز.
ووفقا لنائب الهيئة العامة للآثار والمتاحف أن الممتلكات الثقافية والمعالم الأثرية تمر بمنعطف خطير في عموم اليمن وفي محافظة تعز على وجه الخصوص.
وأوضح أن هذه المعالم والمآثر التاريخية تشكل قيمة تاريخية عريقة لتعز وأبناءها، وتجسد هوية المدنية وعراقتها التاريخية، كحضارة تعاقبت عليها عبر العصور.
وأردف : "هذه المعالم تجسيد لتاريخنا وحضارتنا وهويتنا الأصيلة والتي ننطلق منها لبناء المستقبل".
وذكر أن هناك مجموعة كبيرة من المثقفين الذين لهم اهتمام بمدى أهمية تلك المعالم والحفاظ عليها، في مقابل قصور توعوي في المجتمع المحلي بمدى أهمية الحفاظ على تاريخ وحضارة تعز، والذي لاشك، يبرز كتحدي تواجهه الهيئة العامة للأثار والمتاحف في محافظة تعز.
نبش ونهب وسرقة
وأورد جسار عدد من التحديات التي تواجهها المعالم التاريخية والأثرية في تعز حيث قال إن هناك عمليات نبش وحفر عشوائي من قبل بعض المواطنين في المواقع الأثرية، بحثا عن قطع أثرية للمتاجرة بها.
وتابع: يبرز تحدي ثان وهو عمليات البسط والسطو على حرم تلك المعالم الأثرية من قبل بعض المتنفذين أو البناء على أنقاض بعض تلك المعالم المدمرة أو المندثرة، في ظل عدم وجود دولة النظام والقانون، التي كانت الحرب أهم مسببات هذه الفوضى والانفلات.
وبين أن 60 في المئة من الممتلكات والمقتنيات الثقافية في المتحف الوطني بتعز، تعرضت للسرقة والنهب والتدمير والحرق، أما متحف قلعة القاهرة، فقد طاوله الدمار بما يحتويه من قطع أثرية بالكامل.
وقال: "فهناك معالم كثيرة تحتاج إلى أعمال ترميم، وأخرى بحاجة إلى أعمال توثيق لها وأخرى لأعمال صيانة".
ولفت المسؤول الحكومي أيضا: "هناك مواقع أثرية تحتاج لأعمال تنقيبات، ومواقع إلى أعمال تسوير للحفاظ عليها في ظل الإهمال السابق لتلك المعالم والحرب الطاحنة في البلاد.
تهريب واسترداد
كما كشف مدير إدارة الآثار بتعز عن تهريب المئات من القطع الأثرية المنهوبة إلى خارج مدينة تعز أو إلى خارج اليمن، وقطع أخرى ماتزال داخل المدينة، وهناك أيضا قطع أثرية ما تزال داخل المدينة.
ومضى قائلا: "لكننا بحاجة إلى وحدة اقتناء داخل الهيئة العامة للآثار، للعمل على شراء تلك القطع من المواطنين بأسعار شبه رمزية وهذا يحتاج إلى الدعم أيضا".
وقال إنه تم استرداد ما يقارب 150 إلى 200 قطعة أثرية تقريبا من بعض الجهات الأمنية، بعد ضبطها في الحواجز الأمنية مداخل ومخارج محافظة تعز، كانت بحوزة تجار ولصوص الآثار أثناء محاولتهم الخروج بها من مدينة تعز للإتجار بها.
وشدد على أن الهيئة العامة للأثار والمتاحف بمحافظة تعز تولي اهتماما كبيرا للحفاظ على كل تلك الممتلكات والمعالم والمآثر التاريخية والمواقع الأثرية، مؤكدا أنها مهام كبيرة ومهمة وصعبة بنفس الوقت في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها اليمن وفي ظل عدم وجود ميزانية تشغيلية للهيئة بتعز، وهو أمر يعوق مكتب الآثار من القيام بأبسط مهامه.
ودعا كافة المنظمات المعنية بالحفاظ وحماية الآثار، إلى مد يد العون للحفاظ على تراثنا ومعالمنا التاريخية والأثرية من الاندثار وخاصة في مدينة تعز، وعلى رأسها منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
ثراء حضاري مدهش
أما الباحث اليمني، محمد مصطفى العمراني فيقول: "مرت محافظة تعز منذ القديم بعدة دول ولكن الدول الأهم التي تركت بصمتها الكبيرة في تاريخ تعز هي الدولة الرسولية ( 625 هـ ـ 858 هـ 1229م ـ 1454م)، حيث كانت عاصمة لها وتميزت بثراء حضاري ومعرفي مدهش وفي كافة المجالات العلمية والفكرية والاقتصادية والسياسية.
وأضاف العمراني في حديثه لـ"عربي21 لايت" أن الدولة الرسولية هي الدولة السنية الوحيدة في اليمن التي حكمت مساحات شاسعة في الجزيرة العربية وصولا إلى مكة شمالا وظفار شرقا.
وتابع: "واستمرت لأكثر من قرنين من الزمان"، مؤكدا أنها تميزت كما أسلفت بثراء حضاري ومعرفي كبير جدا لدرجة أن أبرز علماء العالم الإسلامي كانوا يأتون إلى ملوكها في تعز فيجدون حفاوة منقطعة النظير.
وأشار الباحث اليمني إلى أنه في عهد الدولة الرسولية، تم إنجاز أول معجم متعدد اللغات في تاريخ المعاجم العربية والمعروف بـ (القاموس الرسولي)".
وشمل وفقا للمتحدث ذاته، حوالي 1200 كلمة عربية مع مرادفاتها باللغات العالمية المزدهرة في عصره، الفارسية والتركية واليونانية والأرمنية والمغولية. ليصبح أول معجم بست لغات.
كما ذكر أنه تم فيها صناعة آلة الإسطرلاب الفلكية، والتي استخدمت لمعرفة حركة النجوم وقياس الوقت، وفي الملاحة وضبط مطالع الزراعية ، ويعد إسطرلاب الملك الأشرف من بين أشهر الإسطرلابات في التاريخ العربي والإسلامي .
وبحسب العمراني فإن ملوك الدولة الرسولية كانوا علماء، ولذا شجعوا النهضة العلمية وبنوا مئات المدارس العلمية والمساجد والقلاع والحصون والأربطة العلمية وشجعوا العلماء وطلبة العلم بعطايا جزيلة وكانت لهم إنجازات كبيرة في مختلف المجالات حتى في المجال الزراعي حيث ابتكروا طرقا جديدة للزراعة وري المياه وغيرها.
وقال، وهو باحث تاريخي يعكف حاليا على إعداد كتاب حول الدولة الرسولية وثراءها الحضاري،: "لقد وصلت اليمن في عهدهم إلى مرحلة متقدمة جدا من الحضارة.. فكان المسلمون في العالم كلهم يعدون اليمن قائدة العالم الإسلامي حتى أن المسلمين في الصين عندما تعرضوا لمضايقات أرسلوا وفدا إلى تعز".
وأكمل: "وفعلا تحرك الملك الرسولي المظفر وعمل على إنصافهم ورفع الظلم عنهم فقد كانت له علاقة تجارية مع الصين".
وأوضح الباحث اليمني في تاريخ الدولة الرسولية أن هذا الثراء الحضاري الذي ما زالت أثاره باقية في عددا من المعالم بتعز، جعل من تعز محافظة محورية في اليمن وجعلها صانعة النخبة والثورات في اليمن وجعل أبناء تعز هم من يصنعون التحولات الكبيرة في اليمن.
وحول أهمية إحياء التراث اليمني عموما والدولة الرسولية خصوصا، يلفت الباحث العمراني إلى أن أهميته لا تكمن في القيمة التاريخية والسياحية فحسب، وإن كانت هذه مطلوبة أيضا، ولكن "في إعطاء الثقة لأبناء اليمن وخصوصا في تلك المناطق بأنهم قادرون على إعادة بناء اليمن ودولته الحضارية الرائدة فهم أحفاد الرسوليين".
وتحظى تعز بمكانة كبرى في اليمن، فهي تعتبر عاصمة البلد الثقافية، والمحافظة الأكثر كثافة سكانية، إضافة إلى الدور الذي لعبته عبر تاريخ اليمن في المراحل القديمة والإسلامية والمعاصرة.
وبلغت أوج مجدها عندما كانت عاصمة للدولة الرسولية (1229 – 1454م)، تلك الدولة التي استطاعت بسط سيطرتها على اليمن بكامله بل وسيطرت على مكة المكرمة وأجزاء من عمان.