في إطار تعاونها مع "منظمة المراسلين العرب للصحافة الاستقصائية" (أريج)، تنشر صحيفة "ليبراسيون" (liberation) الفرنسية هذا الأسبوع تحقيقا أجراه الصحفي محمد هوسكنز يروي فيه كيف أدى وباء كورونا إلى تطوير نظام للفساد في "مراكز الحجر الصحي" في ظروف يرثى لها، حيث يهرب المعزولون فيها مقابل الدفع.
وفي تحقيقه، انطلق الصحفي من قصة عبد الرحمن أحمد، الذي قبض عليه عند نقطة تفتيش عسكرية في منطقة صعدة، وهو يوشك أن يصل إلى منزله بعد رحلة طويلة عبر الصحراء، عائدا بعد 4 سنوات من العمل في مطعم بمدينة جدة السعودية أغلق لأسباب صحية.
ينقل عبد الرحمن (23 عاما)، وهو المعيل الرئيسي لأسرة مكونة من 9 أفراد، بعد أن وجد نفسه فجأة بدون موارد بسبب وباء كورونا، إلى مدرسة لوضعه في الحجر الصحي، وهناك يستلقي الفتى المنهك على الأرض بدون بطانية، ليبقى 3 أيام قبل أن ينقل مع 100 رجل آخر إلى مدرسة أخرى قريبة.
ويبدو أن مركز الحجر الصحي الجديد -حسب الصحفي- أكثر ازدحاما وأقل تجهيزا من الأول، حيث يحشر أكثر من 20 شخصا في غرفة بمساحة 8 أمتار مربعة، ويوجد مرحاض واحد لكل 150 شخصا، ويجلب ماء الشرب من مياه الآبار الملوثة.
الفرار
في هذا المكان -كما يقول الشاب- تتناثر القمامة والحشرات وقطع البلاستيك على عتبات النوافذ والممرات، ويختلط أعضاء فرق الرعاية الصحية والخدمات اللوجستية بالمحتجزين، غالبا بدون أقنعة أو قفازات أو مطهر، ويمتزج الوافدون الجدد بمن كانوا موجودين منذ فترة أطول بدون أي احتياطات، كما تمنح تصاريح خروج لمدة 3 ساعات ابتداء من الساعة الواحدة ظهرا، للذهاب للحي المجاور لشراء الطعام أو الشراب، يقول عبد الرحمن "شعرت بأنني في سجن وعوملت بطريقة غير إنسانية".
بعد يومين في هذا الجو، يقرر عبد الرحمن الفرار بتواطؤ مع أحد الموظفين حصل له على تصريح خروج، وقد عرض أحد موظفي المركز تهريبه فور وصوله، وتم كل شيء في اليوم التالي مقابل 200 ريال سعودي (45 يورو)، فنقله إلى صنعاء مع 5 من مرافقيه في الحجر الصحي، في سيارته مقابل 300 ريال إضافية.
وقال الصحفي إن عبد الرحمن أظهر له نسخة من الوثيقة، التي تحمل التاريخ الفعلي لدخوله الحجر الصحي، ثم تفويضه بالمغادرة مؤرخا مسبقا، وهي ممارسة شائعة -حسب التحقيق- حيث تحدث عنها 16 فارا من مراكز العزل في جميع أنحاء اليمن، بعضهم من مناطق تابعة للحكومة المعترف بها دوليا، والبعض الآخر من تلك التي يسيطر عليها المتمردون الحوثيون، وقد دفعوا جميعهم مالا للحصول على تصاريح خروج بدون فحص من الفرق الطبية، وحتى من الجنود الذين يحرسونهم.
وقد اعترفت وزارة الصحة التابعة لسلطة الحوثيين في صنعاء بحالات هروب من مراكز العزل الصحي بدون أن تحدد الأرقام، وقال المتحدث باسم الوزارة يوسف الحديري إن قوات الأمن ألقت القبض على عدد من الهاربين، الذين بلغ عنهم المواطنون، وإن الموظفين الذين سهلوا هروبهم تمت معاقبتهم، أما جانب الحكومة الشرعية في الجنوب، فقد وجدت المفوضية العليا للطوارئ أيضا هاربين من مراكز العزل وعزلتهم في منازلهم، كما جاء في التحقيق.
مكان ضره أكثر من نفعه
وحسب شهادات عدة، زادت حالات الهروب من مراكز الحجر الصحي في عدة محافظات (شمال وجنوب اليمن)، حيث وثقت "منظمة سام للحقوق والحريات" (NGO) -غير حكومية- 40 منها، تراوحت المبالغ المدفوعة فيها بين 200 و3000 ريال سعودي (45 إلى 700 يورو)، وكان هاجس الهاربين الخوف من العدوى؛ بسبب نقص التدابير الوقائية، وخطر النقل إلى مراكز العزل، فضلا عن سوء حالة النظافة وظروف الراحة.
وقال مدير منظمة سام توفيق حمدي إن "الحرب في اليمن وغياب مؤسسات الدولة جعلت الإجراءات المتخذة ضد كوفيد-19 غير فعالة"، وضرب مثالا منطقة الرضا، حيث لا يوجد مركز عزل حقيقي؛ بل مساحة كبيرة مفتوحة في كلية التربية، موضحا أن "كل من يستطيع الدفع يخرج؛ لأن مراكز الحجر أصبحت أماكن فساد وإثراء".
في هذا المركز -كما يقول الصحفي- حشر نحو 3 آلاف شخص ينقصهم الطعام، ولم تكن لدى النساء أماكن مخصصة للنوم والصرف الصحي، وقد أظهرت الصور ومقاطع الفيديو، التي التقطت للمكان، عشرات الأشخاص، وهم ينامون على الأرض في قاعة الكلية. يقول أحد الذين مكثوا هناك "كنا نفتقر إلى كل شيء، للطعام والصرف الصحي والنظافة. وكان المكان سوقا حقيقيا يعج بالباعة المتجولين، ومن الطبيعي أن يهرب من يستطيعون تحمل تكاليف الهروب من مكان ضره أكثر من نفعه".
في منطقة عدن، استقبل مركز أمل المتخصص بكورونا، والذي تديره منظمة أطباء بلا حدود، حتى نهاية يوليو/تموز الماضي 279 مريضا، وبين 30 أبريل/نيسان و31 مايو/أيار الماضيين مات منهم 143، وقد أكد رئيس المركز زكريا القاضي أن "الناس دخلوا المركز سيرا على الأقدام، وغادروا في الأكفان"، منددا بنقص المعدات وسوء تنظيم الحجر الصحي.
وقد أشعلت التجاوزات والفساد في إدارة أماكن الحجر ثورات، حيث طلب الجنود الذين يحرسون مركزا صحيا من المرضى دفع تكاليف معيشتهم وطعامهم، كما تظاهر مسافرون عائدون من السعودية بعد أن احتجزوا بدون رعاية، وقطعوا الطريق الرئيسية، مما أدى إلى تدخل قوات الأمن التي سمحت لهم بالعودة إلى منازلهم.
أما عبد الرحمن، الذي عاد إلى منزله في الرمات، ففكر في الذهاب إلى مركز حجر صحي قريب لحماية أسرته؛ لكنه اكتشف أن الإجراءات الوقائية هناك لم تكن كافية، وتم ثنيه عن المجازفة، وبين الخوف من الإصابة بالفيروس والحالة المؤسفة لمراكز العزل، فضل البقاء في المنزل.