[ أهرامات السودان تعتبر منطقة جذب تتمتع بمواصفات عالمية أهملها العالم طويلا (رويترز) ]
في شمال السودان قرب الحدود مع مصر، تمتد أرض صحراوية شاسعة وحارة تكاد فيها الألوان تختفي بين زرقة السماء وصفرة الرمال، ولا يقطعها سوى وادي النيل الضيق والأراضي السهلية الخضراء المحيطة به، لكنها كانت قبل ما يقرب من 5000 عام موطناً لحضارة قديمة مبهرة في السودان.
كان هذا الجزء من وادي النيل ذات يوم موطنًا لحضارة أفريقية قوية وغنية تسمى "كوش"، تداولت الذهب واعتمدت على التجارة بين مصر وبلدان البحر المتوسط شمالاً ومدن الصحراء الأفريقية جنوباً، وكانت أيضاً قوة عظمى في المنطقة، ووصلت إلى أقصى حد لها عندما غزت مصر وحكمتها تحت اسم "الأسرة الـ25" من نحو عام 725 إلى 653 قبل الميلاد، حتى طردهم الآشوريون إلى منطقة النوبة.
واعتبرت كوش حضارة أفريقية سودانية لأكثر من ألفي عام، وكانت في بدايتها متمركزة في نبتة (كريمة الحالية بالسودان)، وفي السنوات من 300 قبل الميلاد إلى 300 بعد الميلاد حكمت كوش من العاصمة مروي، حتى تفككت وضعفت بسبب التمردات الداخلية، واستولت عليها مملكة أكسوم الحبشية.
وفي الموقع الذي كان قديماً مدينة مروي عاصمة مملكة كوش توجد العديد من الأهرامات بارتفاعات متفاوتة ومقبرة ملكية عريقة تعرضت على يد اللصوص الأوروبيين للكثير من أعمال التخريب، وإلى الغرب هناك المدينة الملكية التي تضم أنقاض قصر ومعبد وحمام ملكي. يتميز كل مبنى بهندسة معمارية مستوحاة من الأذواق الزخرفية المحلية والمصرية واليونانية والرومانية، وهذا دليل على روابط مروي العالمية، بحسب تقرير لمجلة سميثسونيان الثقافية.
الانحياز ضد السودان
في التقرير الذي كتبه إسماعيل كوشكوش، وهو سوداني أميركي ولد ونشأ في الولايات المتحدة والشرق الأوسط، يقول إنه لسنوات كان المؤرخون وعلماء الآثار الأوروبيون والأميركيون ينظرون إلى كوش القديمة من خلال عدسة تحيزاتهم الخاصة وانحيازات العصر.
في أوائل القرن العشرين أعلن عالم المصريات بجامعة هارفارد جورج ريزنر، عند مشاهدته أنقاض مستوطنة مملكة كرمة أن الموقع مصري، وكانت مملكة مزدهرة ومستوطنة ضخمة في النوبة القديمة في الفترة من حوالي 2500 قبل الميلاد إلى 1500 قبل الميلاد، بحسب الكاتب.
وكتب ريزنر في مجلة أكتوبر/تشرين الأول 1918 لمتحف الفنون الجميلة في بوسطن "لم يطور عرق النيغريون (عرق في جنوب الصحراء الأفريقية) الأصلي أبدًا تجارته الخاصة أو أي صناعة جديرة بالذكر، وكان يدين بمكانته الثقافية للمهاجرين المصريين وللاستيراد من الحضارة المصرية القديمة".
وظلت هذه الفكرة سائدة قبل أن تكشف أعمال التنقيب وعلم الآثار عن الحقيقة في منتصف القرن العشرين، وظهر أن كرمة التي يعود تاريخها إلى 3000 قبل الميلاد، كانت أول عاصمة لمملكة أصلية قوية توسعت لتشمل الأرض الواقعة بين الشلال الأول لنهر النيل في الشمال والشلال الرابع في الجنوب.
تنافست المملكة مع مصر القديمة وتغلبت عليها في بعض الأحيان، وتداولت هذه المملكة الكوشية الأولى العاج والذهب والبرونز وخشب الأبنوس والعبيد مع الدول المجاورة مثل مصر وبونت القديمة (الصومال حالياً)، على طول البحر الأحمر إلى الشرق، واشتهرت بالفخار الملون والمصقول بدقة مثل السيراميك.
كان عالم الآثار السويسري تشارلز بونيه من بين أولئك الذين طعنوا في فكرة عالم المصريات ريزنر، واستغرق الأمر 20 عامًا حتى يقبل علماء المصريات حجته، وأخبر بونيه معد تقرير المجلة أن "علماء الآثار الغربيين، بمن فيهم ريزنر، كانوا يحاولون العثور على مصر في السودان، وليس السودان في السودان".
وعاد بونيه مجدداً إلى منطقة كرمة لإجراء بحث ميداني سنوي منذ 1970، وقام بالعديد من الاكتشافات المهمة التي ساعدت في إعادة كتابة التاريخ القديم للمنطقة. واكتشف وحفر مدينة كوشية محصنة قريبة من كرمة تعرف باسم "دوكي قيل" Dukki Gel، التي تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، بحسب الكاتب.
الفراعنة السود
حوالي 1500 قبل الميلاد، سار فراعنة مصر جنوبا على طول نهر النيل، وبعد غزو كرمة أنشؤوا الحصون والمعابد، جاؤوا بالثقافة المصرية والدين إلى النوبة.
بالقرب من الشلال الرابع، بنى المصريون معبدًا مقدسًا في جبل البركل، وهو جبل صغير مسطح يقع في مكان فريد حيث يتجه النيل جنوبًا قبل أن يتحول شمالًا مرة أخرى، كان هذا المكان حيث تولد الشمس من الضفة "الغربية" -التي ترتبط عادةً بالغروب والموت- التي اعتقد المصريون القدماء أنها مصدر الخلق.
ساد الحكم المصري في كوش حتى القرن 11 قبل الميلاد. مع تراجع مصر وضعف إمبراطوريتها، نشأت سلالة جديدة من الملوك الكوشيين في مدينة نبتة، على بعد حوالي 120 ميلاً جنوب شرق كرمة، وأكدت نفسها أنها الوريث الشرعي والحامي للمصريين القدماء.
وحكمت الأسرة النوبية 25 أو "الفراعنة السود" مصر والسودان، وبنوا أكثر من 200 هرم في مدينة نبتة وما حولها شمال السودان، وامتد نفوذها إلى أجزاء من بلاد الشام، وأصبحت واحدة من أقوى الإمبراطوريات عالميا في زمانها، ونافست الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية.
وانتصر ملك الكوشيين تهارقا في حربه مع الفرس، وكانت الحرب سجال بين الرومان والكوشيين، لكنهم انهزموا لاحقاً في حربهم مع الآشوريين، وتراجعوا إلى جنوب مصر وشمال السودان ليؤسسوا مملكة نبتة (656-590 ق.م)، ثم مملكة مروي (590 ق.م إلى القرن الرابع الميلادي).
ورد ذكر تهارقا في الكتاب المقدس باعتباره حليفًا لملك القدس حزقيا، وقام بنقل المقبرة الملكية إلى نوري، على بعد 14 ميلاً، وكان قد بني لنفسه مقبرة هي الأكبر من تلك التي أقيمت لتكريم الملوك الكوشيين. وعندما تعرضت نبتة للتهديد المتكرر من قبل المصريين والفرس والرومان، نقل ملوك كوش عاصمتهم تدريجيًا جنوبًا إلى مروي.
أصبحت المدينة الواقعة عند تقاطع العديد من طرق التجارة الهامة في منطقة غنية بالحديد والمعادن النفيسة الأخرى، جسراً بين أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، ونمت وازدهرت.
ويقول أرنولف شلوتر من متحف الدولة للفن المصري في ميونيخ "لقد شكلوا أفكارهم الفريدة للغاية والهندسة المعمارية والفنون الخاصة بهم".
مروي
تعتبر الأهرامات في مروي، التي أعلنتها اليونسكو موقعا للتراث العالمي في عام 2011، بلا شك العلامة الأكثر لفتًا للنظر في المنطقة.
رغم أنها ليست قديمة أو كبيرة مثل الأهرامات في مصر، فإنها فريدة من نوعها من حيث أنها أكثر انحدارًا، ولم تكن كلها مخصصة للعائلة المالكة، فالنبلاء (على الأقل أولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفها) دفنوا في الأهرامات أيضًا.
ويسارع العديد من السودانيين اليوم إلى الإشارة إلى أن عدد الأهرامات القديمة الموجودة في البلاد -أكثر من 200- يتجاوز عدد الأهرامات الموجودة في مصر.
على الجانب الآخر من الأهرامات توجد المدينة الملكية، مع الأراضي المحيطة التي لا تزال مغطاة بالخبث، وهي دليل على صناعة صهر الحديد الكبيرة في المدينة ومصدر قوتها الاقتصادية.
ولعبت الملكات التي يطلق عليهن اسم كانداكي دورًا حيويًا في الحياة السياسية المروية. وأشهرهن كانت أمانيريناس، وهي ملكة محاربة حكمت كوش من حوالي 40 قبل الميلاد إلى 10 قبل الميلاد، بحسب تقرير المجلة الأميركية.
تراجع وتغييب
بحلول القرن الرابع الميلادي، بدأت قوة كوش في التضاؤل. ويقدم المؤرخون تفسيرات مختلفة لذلك، بما فيها الجفاف والمجاعة الناتجين عن تغير المناخ وصعود حضارة منافسة في الشرق، وأكسيوم في إثيوبيا الحديثة.
ولسنوات تم تجاهل تاريخ كوش وإسهاماتها في الحضارة العالمية إلى حد كبير. ولم يتمكن علماء الآثار الأوروبيون الأوائل من رؤيتها على أنها أكثر من انعكاس لمصر، بينما حال عدم الاستقرار السياسي والإهمال والتخلف في السودان دون إجراء بحث كافٍ في تاريخ البلاد القديم، بحسب التقرير.
ومع ذلك، فإن إرث كوش مهم بسبب إنجازاتها الثقافية المميزة وحضارتها؛ فقد كان لها لغتها وكتابتها الخاصة، واقتصاد قائم على التجارة والعمل الماهر، ونموذج زراعي يسمح بتربية الماشية، ومطبخ مميز يضم أطعمة تعكس البيئة المحلية مثل الحليب والتمر.
لقد كان مجتمعًا منظمًا بشكل مختلف عن جيرانه في مصر والشام وبلاد ما بين النهرين، مع تخطيط فريد للمدينة وعائلة ملكية قوية.
بينما تم تفسير الحضارة المصرية منذ فترة طويلة في ضوء صلاتها بالشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط ، توضح كوش الدور الذي لعبه الأفارقة السود في عالم قديم مترابط.
ويقول إدموند باري جيثر، مدير المركز الوطني للفنانين الأفرو-أميركيين بمتحف بوسطن، إن "النوبة أعطت السود مكانًا خاصًا بهم على الطاولة، حتى لو لم تقض على المنتقدين العنصريين".
وقال عالم الآثار الفرنسي كلود ريلي للمجلة الثقافية إنه "مثلما ينظر الأوروبيون إلى اليونان القديمة رمزياً كأب أو أم لهم، يمكن للأفارقة أن ينظروا إلى كوش على أنها سلفهم الأكبر".
وتقول انتصار صغيرون، عالمة آثار وعضو في الحكومة الانتقالية السودانية، إن إعادة اكتشاف الجذور القديمة للبلاد ساعدت في تأجيج الدعوات للتغيير، ونقل عنها الكاتب قولها له "كان الناس محبطين من الحاضر، لذلك بدؤوا في النظر إلى ماضيهم. كانت تلك لحظة الثورة".