مطهر علي الإرياني..إنسان محض وعالم كامل ،عندما يجتمع العلم والمثل العليا،والقدوة الحسنة فذلكم نموذج الإنسان المحض،والعالم الكامل.. في شاعر مبدع وعالم آثاري..ومؤرخ من ألمع المؤرخين..وفقيه لغوي .
ومختص في المسند الحميري.. خبير في الفلك ومواسم الزراعة وجغرافية اليمن وتراثها وتاريخها وآدابها العربية والقديمة،ولهجاتها وعاداتها وتقاليد تراثها الحضاري.. إن هذه المعرفة الموسوعية تتضافر بصورة داهشة مع مسلك أنموذجي في التواضع والسلوك مما يؤكد عمق المعرفة،وحصافة العالم، إن تنوع وتعدد منابع وروافد معارف مطهر قد مثل سيلاً عرماً في شاعريته الغنية عن ثقافته الواسعة واطلاعه العميق وخبرته المؤزرة بعاطفة صادقة وإخلاص جم.
كشاعر
أتقن شروط قصيدة العمود، وألم إلماماً واسعاً بالأدب الشعبي:المواويل والمهاجل والزوامل والدان والزجل والموشح والبالة والحميني،ورث تقاليد وقيم القصيدة الشعبية ككنز من الوجدان الشعبي الحي والطازج ،
وامتلأت مشاعره بهذا اللون من فاكهة الإبداع الشعبي ـ ومكنه اتقان اللهجات الشعبية والقيم والتقاليد الضاربة الجذور في عمق التربة اليمنية الثرية والفواحة بعبق التاريخ والحياة.تمتزج فيه روح الشاعر ووعي عميق بالتراث العربي اليمني وحس عميق بالحياة الشعبية والعادات والتقاليد والأتراح والأفراح ومواسم الزراعة ومهاجل الحصاد والرقصات الشعبية،
والأغاني العامية والفصيحة الملحونة «الحميني» وأوزانها ومفرداتها وتراكيبها فيقدم تجديداً ابداعياً في القصيدة العامية والأغنية الشعبية بألوان زاهية من الصور والأخيلة والنغم المعبأ بالحزن والناضح بالفرح والحياة.
إن الغوص عميقاً في حياة الناس العاديين وإدراك سر موروثهم الإنساني والقدرة الفائقة على التعبير الابداعي عن هذه الروح الممتدة في التاريخ آلاف السنين هو ماجعل من أغاني مطهر الإرياني زاداً يومياً ولحظياً للفلاح في الحقل والراعية في الوادي ،والمسافر ،ونشيد الأعراس وزامل المحارب ،
وسلاحاً بيد المقاومة الوطنية في مقارعة الاستعمار والاستبداد،كانت وظلت تعويذة العروسة في زفتها الزاهية وموالاً لعمال البحار للهاربين من الفناء في أزمنة الطاعون والهلاك الجماعي في ساعة لاتعرف الشاطئ وليس لهاسارية.
والليلة البال بالنسمة السارية
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية
والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد
مافي فؤادي لطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي بنا وابين ووادي زبيد
هايم وجسمي أسير الغربة القاسية
غنى للحب والبن،عشق قران الثريا،وبشر حارس البن بطيب الجنى،غنى للطيور،وغنى للشجر،وغنى للحياة والحب والجمال راشفاً رحيقاً عذيب اللمى.
غنى لغصن القنا،للصبايا يردن مع الوادي وادي بنا.
تتوحد في شعره الغنائي الأشجار وخصوبة الأرض،تتفجر فيه الينابيع الطبيعية وقلب الزراع والعشاق وخفر العذارى طالباً الأمان. رتل آيات حزن الوداع وحول مطر عيونه سيولاً تسقي الوديان وتغمر الأرض وتنبت الأكل ولن يبكي أحد من العشاق مثله!
متوسلاً إلى الطيور أن تنوح معه:
يا خل بعدك أنا شبكي وشلقى الويل
ياأحباب ياأحباب لاجاكم مطر بالليل
لاتحسبونه مطر هو دمع عيني سيل
ياعين جودي بدمعك واسقي الوديان
غنى المطهر للمواسم غنى للسهول وأوبت معه الجبال والطير،وردد صدى أغانيه الليل والنهار،سما بالوطن حد العشق فمواسم الزراعة ومواسم الحصاد وأقران الكواكب تكتسي معنىً حياتياً وإيحاءات بشرية لها رائحة الأنوثة وجنون الاشتهاء ويتحول موسم الزراعة إلى عرس كوني تسير في موكبه الحور والنبيون والأفلاك والملائكة في زفة الهلال إلى عروسه الثريا.ومطهر المتبتل بالتراب المسكون
بحب الوطن الناسك في محراب الأرض العاشق حد الوله والعبادة.
من سلف الأرض حبه تمنحه من وفاها مقضى ومكسب وريع
منابت الأرض خصبة من غرسها جناها والأرض نعم الوديع
ماتعرف الأرض كذبة أو تخيب رجاها من حبها ما يضيع
إنه العالم بأسرار كنوز الأرض؛ بخيراتها وعطائها وحبها وفيوضها.
يعلم مطهر الإرياني أن جن سليمان الذين يأتون بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه هم الزراع الموشون بأناملهم رؤوس الجبال الرواسي لإبداع قوافي المدرجات وآيات المحافد وإعجاز المصانع والقلاع والسدود والنحت والتماثيل.
فمطهر الإرياني العارف بمواسم الزراعة والمطلع على أسرار المحاتم والمجدد في الاغنية الشعبية،الخبير الماهر بأوزانها وقوافيها ونغمها وتراكيبها قد أضاف إليها كمجدد أخيلة عصرية وتراكيب وصوراً شعرية استمدها من موهبته كشاعر كبير ومن التجربة الشعربة الحديثة التي يمتلكها في بناء قصيدته الأقرب للحداثة:
يابلادي.. نجم الظما حل والزرع بثوب النضير الرطيب
النباتات غضة العود لاتقوى على قيضه البخيل الجديب
إنها الآن ظامئات على أوراقها الخصر مسحة من شحوب
مثل صبيان الريف يذوون أطفالاً كما في حياتهم من نضوب
إن أشعارالإرياني تمثل ملاحم ابداعية لاتقل روعة وغنى عن ملاحم «هوميروس» الأوديسة والألياذة وإن كانت ملاحم الإرياني لاتمجد الحرب والانتفاخ بالبطولات الزائفة ولكنها تمجد الزراع وتؤله الإبداع وتناجي بابتهال وحب حراثة الأرض والذود عن الأوطان.والإرياني كوارث حضارة وتراث وابداع وتاريخ يتمثل الإبداع الشعبي ابتداءً من المزاح وابن فليته وابن شرف الدين والقارة والعنسي والآنسي الأب والابن والقمندان ،ويجدد حكم ابن زايد وابن منصور وابو عامر والشبثي،وعندما تهدد الذئاب العاوية "الأمل الواعد"في الثورة والحرية يعزف المبدع نشيد الإنشاد:
فوق الجبل حيث وكر النسر فوق الجبل
واقف بطل محتزم للنصر واقف بطل
يزرع قبل في صميم الصخر يزرع قبل
يحرس أمل شعب فوق القمة العالية
ليس هناك شاعر يمني قد احتفى بالزراع مثله،وليست اليمن إلا هؤلاء الفلاحين بناة الحضارة وبناة الخير،فابن الإرياني يرصد حياة الفلاحين :قيمهم وعاداتهم،ووديانها ومهاجلهم والرقصات الشعبية، وأغاني القحط والمطر والبذار والسلق ، والحصاد، ومختلف أوقات العمل،والبكور،وأغاني الغربة،وشجن الفلاحات ويسجل ديوان «فوق الجبل» روائع من الشعر المسرحي وحواريات رفيعة الإبداع والصدق الجمالي والفني والموضوعي ، إن أشعار «فوق الجبل» تمجيد ــ أي تمجيد لقيم العمل والجمال والحب والحياة،وقيم الوطنية والذود عن الكرامة والمثل:
ياالله رضاك يامعين للصبح ماقال واصل
إلا انطلق للعمل باني وفلاح وعامل
مانسمع إلا المطارق أو هدير المعامل
وفي الحقول والجبال تسمع صرير المعاول
لكل عامل وباني اليوم تحلى الأغاني
وعندما بدأت «رياح» أحداث اغسطس المشؤومة تلوح نذرها غانى الإنسان الحكيم:
ياقافلة بين امسهول وامجبال
الله معش حامي وحارس
ياقافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس
ياقافلة صفي صفوف الرجال
واستنفري كل الفوارس
قولي لهم عاد الخطر مايزال
لاتأمنوا شر الدسايس
ولعل هذه الرائعة اصدق وأعمق تعبير عن روح الشعب والحقيقة الثورية التي غامت في عيون كثير من القيادات السياسية والحزبية ضيقة الأفق ومحدودة الرؤية،فالقصيدة على فنيتها وقيمتها الجمالية تعتبر بالقدر نفسه بياناً ــ ثورياً ـ لايزال يمثل صدق النبوءة واستشراف الآفاق المستقبلية،وعظمة هذا البيان الابداعي إنه مايزال يمثل حتى اليوم رؤية عميقة أكثر وهجاً وصدقاً عن تحليلات أحزابنا الغارقة في اليوم،والبعيدة عن الهجس بالآتي أو التطلع إليه.
هيا شباب أتوحدوا للنضال
وانسوا خلافات المسامر
وبعد نيل النصر تصبح حلال
كل الموارد والمصادر
كلين وفكره ينصره بالمقال
ولو يراشق بالمحابر
وشعره سجل حافل وأمين للهجات اليمنية، وللمفردات العامية ذات الجذر الحميري والفصيح،وقد أكسبه عمق معرفته بخط المسند وبفقه اللغة،إضافة إلى الانغماس في حياة الريف من تصوير حياة القرية بإعجاب وحب شديدين.
استيقظ الكون كني به
تململ وجمع لما تمطى قواه
ياالله رضاك يامعين استيقظ
الريف وأسرع يطلب من الله رضاه
فهو كفلاح ينغمس في الحياة الريفية ويصور تفاصيل حياة زراع الحياة والثمار والخيرات ،يهب معهم إلى الحقل ويعايش تفاصيل عملهم في النهار وقلقهم الدائم من تأخر المطر وفرحتهم العارمة بانبجاس انوار الفجر،يعشق الطبيعة،وهو مؤمن عميق الإيمان،فهو يرى في الصبح وأنواره وابتسام الطبيعة وتمايل النسايم وابتسام الزهور شاهد صنع الإله العظيم.
من يشهد الكائنات في الفجر
يبصر ويسمع بديع صنع الإله
يشاهد اليقظة الكبرى مع
الفجر تصنع ليوم حادث رؤاه
وقد تملى الشاعر مهاجل الفلاحين وحكم الزراع ،وأعاد صياغتها لتصبح أغاني لكل اليمنيين،وقد خلدها في ألحان تثري الوجدان وتغمر المشاعر.وتوقظ الضمائر وتملؤها زهواً وفرحاً إنسانياً سامقاً.
بلادنا ياسهول
اتوسعي للمعاول
بلادنا ياحقول
اتموجي بالسنابل
يادايم الخير دايم
على الجبال والتهايم
شنت عليها الغمائم
بالجود رايح وغادي
وتقديس مطهر للفلاح واهب الحياة ومحيي الأرض بعد موتها ومجدد دورتها الدموية ليس مصدره تأملاً أو قراءة أو تثاقفاً ،فالشاعر قد انغمس إلى مافوق الأذن ومهر في تطريز الأرض بالسلام كمهارته في تدبيج القصيد، ورسم الصور الشعرية المعبأة بنسائم الحب وأشواق النماء ، ويقين الانتصار.
نيسان والنجم الأحمر والثريا ومبكر
وفي الخريف التعب فالخير مازال ينظر
لقد غدت أناشيد المبدع مطهر الإرياني أهازيج شعبية يرتلها الصغار والكبار في اليمن كلها ،ومثلت هذه الأناشيد الثورية سلاح المدافعين عن الثورة،ووجداناً عميقاً للمؤمنين بالتغيير ،ووعياً بانتصار الحرية والعدل.
ويزاوج ابن الارياني بين مواسم الزراعة ومواسم الكفاح الوطني، وانتصار الإنسان على الجدب ومقاومة الاعشاب الضارة،يتمازج مع إرادة واحدة تتوج في النهاية بانتصار الإرادة الخيرة على قوى الشر في المجتمع كانتصارها على القحط والأوبئة والجراد:
واليوم والعلان بالخير قادم
نسأل الله لطفه والسلايم
أن يصرف الآفات والضر دايم
لاابتلاءا بآفة في الخواتم
الله يكفينا البرد والعواصف
أو مخمن وطايف أو مثمر
في المجارد والعسال رب لاطف
وكشفه كل كاشف ربنا استر
والبن في الوديان ظفر بعد ما ازهر
بعد حين يصبح أحمر في عقوده
وإذا كانت مقاومة الفلاح ضد قوى الطبيعة:الآفات والكوارث غير مفصومة عن كفاحه ضد الآفات البشرية والطغيان والقهر فإن حبه أيضاً كل لايتجزأ.
يتخذ الشاعر الحب عقيدة ، فيغمر حبه الأرض والإنسان ،ويفيض حبه على اليمن سهولاً وجبالاً وودياناً،والحب مصدر من مصادر الإبداع والإلهام وقد ربطه الحب برباط مع الناس والحياة والأتراح والأفراح.
جينا نحييكم ونسمر معاكم
أسعد الله مساكم ياجماعة
يالله بانسمر سوى في حماكم
ليت واحنا معاكم كل ساعة
وتمثل قصائد مغناة سبا وملحمة الريف،وهيا نغني للمواسم ،تمثل مسرحاً شعرياً راقياً لم يكتب له أن يرى خشبة المسرح، وقد غنى بعض منه ولكن تحويله إلى خشبة المسرح هو الأهم ،وسيمثل مادة ثقافية وأدبية وفنية للتلفزيون.
إن تجلي قيم العامل والفلاح والبحار والجندي ــ حارس البن ـ ليست ترفاً إبداعياً ولا موقفاً تأملياً ولاتقمصاً واهناً ـ لعيشة الفلاح ما أحلاها ـ وإنما هي ممارسة واقعية لفلاح حقيقي خبر حراثة الأرض،وترويض المدرجات ومكابدة المعايشة الواقعية للنزاع منذ البذار وحتى الحصاد ،وهو إلى جانب ذلك موقف اخلاقي،وانتماء فكري،ترفده الممارسة اليومية والالتزام السياسي،وقاموس الشاعر قاموس الحياة اليمنية بالمعنى الواسع للحكمة.
لقد ربط المفردة «العامية» بجذرها الحضاري اليمني وسندها الحميري وميز بينها وبين المفردة ذات البيئة المالحة ،القاسية،فالمفردة عنده شاهدة ازدهار الفن المعماري والبناء الهندسي المتطور ومعطى من معطيات الخصب الزراعي والتطور التجاري ،والبنيان المعرفي.
والقارئ لقصائد الشاعر يدرك التجديد في القصيدة العامية ،والحفاظ على تقاليدها في الوزن والعروض وتخليد المفردة«الحميرية» التي أهملتها المعاجم العربية التي حصلت من البداوة والتبدي سندها الوحيد وشرعيتها الاحتجاجية.
اللافت أن عمق معارف الإرياني لم تشكل عائقاً أو عقبة إزاء ابداعه الشعري المتعارف عليه بين النقاد،إن المتعمق في التعقيد والالتزام الدقيق بالتقاليد المتوارثة للشعر غالباً ما يكون على حساب الابداع والتجديد وقد استطاع الشاعر توظيف خبرته بالقواعد،ومهارته بتقاليد القصيدة العربية الفصحى والعامية المزج بين اساليب وتراكيب القصيدة ليخرج بفاكهة من الابداع مختلفة الألوان والأكل.
مطهر الإرياني عالم آثاري لغوي
درس الاستاذ/مطهر خط المسند الحميري على يد مفكر وعالم جليل من أفضل المؤرخين اليمنيين وعلماء اللغات، إذ كان يتقن خمس لغات حية وعدداً من اللغات الميتة ومنها خط المسند الحميري والعبرية وغيرهما ألا وهو العلامة الدكتور /فضل الله الهمداني ،كما أن اهتمامه الرفيع بالآثار ومواقعها وتتبع كل ما اكتشف منها والقيام بزيارات متكررة للمواقع الاثرية والكشف عن كنوزها،والقيام بقراءات علمية وتاريخية ولغوية لخط المسند وتدوين ما اكتشف من هذه الكنوز على يد المستشرقين والمنقبين والباحثين أمثال «ألبرت جام» ووليم فولبرايت وكونتيني روسيني وأحمد فخري وريكمانس وأحمد شرف الدين والكهالي ،إضافة إلى النقوش التي اكتشفها بداية حبه،منذ الطفولة وإبان زيارته لألمانيا بنصف العام 70وتتبع قوائم الدارسين لملوك اليمن القدماء: أمثال فون فيسمان دريكمانس وهوبل وفلبي وغيرهم.
لقد قام الباحث والعالم اللغوي والمؤرخ بقراءة العشرات من هذه النقوش،وقد مكنه تخصصه واحترافه وحبه للتاريخ اليمني من تكوين رؤية عميقة عن التاريخ اليمني القديم معززاً ومسنوداً بأدلة وشواهد علمية صادقة.لقد قام الإرياني بالترحال عشرات ومئات الكيلو مترات في أنحاء شاسعة من الأرض اليمنية وطوف بالبلاد ماشياً وراكباً مختلف وسائل الركوب ابتداءً من الحمير والبغال والسيارات، وقرأ التاريخ اليمني بعمق ليضيف إلى عمره الذي لايتجاوز السبعين عاماً أزمنة وأحقاباً متطاولة تمتد من القرن الواحد والعشرين إلى بواكير فجر الحضارة والتاريخ اليمني.وتتسم قراءات الإرياني للنقوش بالإطلاع الواسع ومعرفة عميقة بمختلف مراحل خط المسند،وبالسياسات التي تمثل جذور العربية،ويستعين الشاعر بموهبته الشعرية،والدينية واللغوية في إضاءة النصوص والآثار التي يستقرئها بحصافة ودقة.
لقد تابعت منذ كنت في اليمن الجديد مطلع السبعينات جهود عالمنا في قراءة هذه الاكتشافات التي تعيد الاعتبار لحضارة سامقة رفدت الحضارة العربية الإسلامية، ولايزال عطاؤها غزيراً تنتظر الكشف والقراءة والبحث ويقدم كتابه«نقوش المسند وتعليقات» جهداً علمياً ومبحثاً للدارسين عن اليمن: حضارةً وفكراً وتاريخاً،ويحتفظ الاستاذ/مطهر الإرياني بروائع من هذه الكنوز لكن نتمنى أن يتمكن من نشرها لإثراء المكتبة اليمنية والفكر والتاريخ اليمني بهذا الزاد المعرفي.
الإرياني والمعجم اليمني
تتميز جهود الإرياني المعرفية بالغنى والتنوع ،فهو كما أسلفنا عالم آثاري وعليم بحرف المسند ،خبير بالتراث الشعبي «الفلكلور» ومطلع على مواسم الزراعة وكل مايتعلق بها.كما أنه متمكن من العروض والقوافي؛ بل هو منظر لبناء القصيدة الشعبية،إضافة إلى أنه شاعر من ألمع شعراء العامية اليمنية ،وقد تتبع اللهجة العامية في منطقته بصورة خاصة وفي اليمن بصورة أعم،وقد أصدر المعجم اليمني في اللغة والتراث «حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية» وفي مقدمة الكتاب «القيم» والريادي يؤكد اللغوي أن اهتمامه بالنقوش المسندية وتاريخ اليمن القديم قد بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاماً،وأثناء تدارس هذه النقوش مع المستشرق الألماني الكبير البروفيسور «فالترو» وكان توافقاً بين آراء الباحث ورغبة المستشرق في تدوين المفردات اليمنية التي أهملتها المعاجم والقواميس العربية.
وكعالم رائد في المعجم اليمني يحدد بمهارة ودقة الظواهر السلبية التي اعتورت عملية تدوين البنية التراثية العربية منذ البداية ويحددها بالانحصار والاجتذاذ والانقطاع والبدونة.
ويقيناً فإن الجهد اللغوي الذي قام به فقيهنا لايكشف عن كل الكنوز التي أغفلها عصر التدوين للأسباب التي أشار إليها،ولكنه وهذا هو الأهم يفتح ثغرة في الجدار السميك الذي أقامته عصور من القهر والتخلف والاستبداد والبدونة.
لايتصدى فقيهنا المبجل لعميد الأدب العربي طه حسين الذي اتكأ على قول عمرو بن العلا«مالسان حمير بلساننا،ولالغتهم بلغتنا»وإنما يتصدى لما هو أكبر من هذه المقالة،إنه يتصدى لعصر التدوين كله،وعصر الاحتجاج الذي حصر الحجية «اللغوية» في المناطق الأكثر بداوة وتصحراً،أو بالأحرى في القبائل المبرأة من اقتراف خطيئة التحضر والتمدن ،لذا فهو يرى بمجهر أبعد وأغزر وأعمق،وهذه القصة التي يحجم حتى اليوم فقهاء اللغة والنقاد من إعادة قراءتها ونقدها لأنها حرمت الأمة العربية والإسلامية من كنوز معرفية هي بأمس الاحتياج إليها.
وتتجلى القراءة الأعمق في إدراك هذا الفقيه المعاصر لوظيفة عالم اللغويات الذي يغوص في الأعماق الروحية والنفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيعيد صياغة هذه البنى التي تمثل جوهر الإنسان وكنهه الحضاري.
ويمثل تحقيقه إلى جانب زملائه د.حسين العمري والدكتور يوسف محمد عبدالله لمعجم«شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» لنشوان بن سعيد الحميري انجازاً حضارياً ومعرفياً قل نظيره في عصرنا.
وكم نتمنى لو تهتم جامعة صنعاء ومراكز البحث لإلزام بعض طلاب اللغة القديمة «المسند» وطلاب التاريخ والآثار وبعض الباحثين من التتلمذ على هذا المفكر والأديب ،والمؤرخ لإحياء الدارس من حضارة وتاريخ اليمن السعيد إن شاء الله.