[ "خنجر التقسيم".. جذور الصراع الداخلي والإقليمي على جنوب اليمن ]
في الأول من أغسطس/آب 2019، استهدفت طائرات مسيرة تابعة للحوثيين معسكرًا في عدن وكان ضمن القتلى العميد، منير المشالي، المعروف بأبي اليمامة، قائد اللواء الأول "دعم وإسناد"، ورغم إعلان الحوثيين مسؤوليتهم عن الهجوم فإن قوات الحزام الأمني، التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، سرعان ما حمَّلت قوات الحماية الرئاسية التابعة للرئيس، عبد ربه منصور هادي، وحزب التجمع اليمني للإصلاح المسؤولية واتهمتهما بالتواطؤ، ثم بدأت اشتباكات مسلحة على إثر ذلك أسفرت في السابع من ذات الشهر عن هزيمة قوات هادي، واستيلاء الحزام الأمني على المقار الحكومية في مدينة عدن ودخول القصر الرئاسي في معاشيق. ولم تكد تمر ثلاثة أسابيع حتى عادت القوات الحكومية وشنَّت هجومًا مضادًّا نجحت في ساعاته الأولى في استعادة المواقع التي خسرتها، لكن، وبعد هجمات بطائرات مقاتلة إماراتية على الجيش اليمني في محافظتي عدن وأبين، عادت الكفة مرة أخرى تميل لصالح قوات الحزام الأمني والمجلس الانتقالي، وعادوا للسيطرة على مفاصل مدينة عدن.
يناقش هذا التقرير جذور الصراع على الجنوب اليمني ومحاولات الـتأثير في هويته، ويلقي الضوء على أسباب هزيمة القوات الحكومية التابعة للرئيس هادي في معركة عدن عمومًا وعوامل إخفاقها في إدارة الجنوب على وجه الخصوص، ويستشرف مآلات الأزمة اليمنية على ضوء الصراع الدائر في هذا البلد منذ خمسة أعوام وعلى خلفية الأحداث التي شهدتها عدن في الأيام الأخيرة.
جذور الأزمة الجنوبية
لم تشهد الهوية اليمنية في التاريخ المعاصر انكسارًا بفعلٍ ذاتيٍّ بقدر ما كان لذلك الانكسار علاقة بعوامل خارجية تتحكم بالمشهد، أو صراع داخليٍّ عنيف أسرف في الانتقام من حيث يظن أنه يصلح الاعوجاج فإذا به يزيده عُتُوًّا، ولكليهما علاقة بصراع الهوية اليمنية التي تجلَّت في عنوانين: الانفصال، وإنكار الهوية.
ينظر المؤرخون إلى اليمن باعتباره حضارة تشكلت في جغرافيتها دولٌ وممالك، وطيلة قرون ضاربة بجذورها في القدم كان لليمن هوية مشتركة كما تدل على ذلك الآثار والنقوش المدونة بخط "المسند" أحد أقدم الأبجديات في العالم، فقد استوعبت الهوية اليمنية الجامعة عبر حقب التاريخ تعدد الممالك والدول المتصارعة في فضائه الجغرافي دون خروج عن تلك الهوية أو تنكِّرٍ لها. ولم يكن العامل الجغرافي فقط هو المحدد للهوية اليمنية بل والديني أيضًا وبخاصة بعد دخول الإسلام. وفي هذا السياق، يتم التمييز بين نوعين من الهوية اليمنية: هوية "اليمن الحضاري-الثقافي" وهو حاصل تفاعل الجغرافيا والتاريخ، وهوية "اليمن السياسي" التي تتمظهر في الدول التي نشأت داخل الفضاء الجغرافي لليمن طوال مراحل تاريخه. وإذا كان اليمن الحضاري الثقافي واحدًا دائمًا فإنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة لليمن السياسي الذي عرف الوحدة والانقسام.
فالهوية اليمنية إذن هي توءمة بين جغرافية المكان، وتاريخ الإنسان، ورصيد متراكم من الصيغ الثقافية (= اللغة والمعارف والمعتقدات)، والاجتماعية (= العادات والتقاليد وقيم المجتمع)، والحضارية (= عناصر التطور البشري في مجالات الحياة)، والقواعد الدستورية والقانونية (= هي قواعد ناظمة ومستقرة). وعليه، فلا يمكن الاعتراف بأية صيغة للهوية خارج هذه القواعد التي تحدد الانتماء وما يترتب عليه للمواطن من حقوق والتزامات، ولا يُعَوَّلُ في إثبات الهوية على مكوناتها التقليدية فحسب، بل يشترط فيها قدرتها على تحقيق قدر من الاندماج و"العيش المشترك"، حسب تعبير أرنست رينان، أو "إرادة السيادة"، بحسب عزمي بشارة.
ولم يعرف تاريخ اليمن دولًا وحدوية ودولًا انفصالية، وإنما عرف دولًا قوية وأخرى ضعيفة، فرغم الانقسام السياسي، كان اليمن الحضاري-الثقافي يمارس قدرًا كبيرًا من الفاعلية في الحفاظ على القواسم المشتركة وتكريسها وتعميمها. ولم تعرف الهوية اليمنية تصدعًا أو نكرانًا أو انكسارات حتى أخضعت بريطانيا جنوب اليمن لحكمها بين عامي 1839– 1967، وكان لهذا الاحتلال دور في محاولة شطب "الهوية اليمنية"، وترسيخ مسميات محلية خارج سياق الهوية المتعارف عليها، بدءًا بممارسة دور التفتيت للجنوب عبر خلق كيانات عشائرية وقبلية وتكوينات عائلية ما دون الدولة الوطنية بلغ عددها 22 كيانًا طارئًا، ثم تجميع هذه الكيانات قبيل الاستقلال لحاجة استعمارية تحت اسم "الجنوب العربي" في محاولة -كما سبق القول- لتشطير "الهوية اليمنية". وبعد انسحاب بريطانيا من الجنوب اليمني عام 1967، نجح اليمنيون في توحيد دولتهم، عام 1990، التي كانت منقسمة بين الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، لكن عادت الدعوات الانفصالية مرة أخرى واندلعت حرب في صيف العام 1994 على خلفية رغبة الجنوبيين في الانفصال غير أن هذه الحرب انتهت بهزيمتهم واستمر اليمن الموحد منذ ذلك الوقت حتى الآن.
ورغم الوحدة اليمنية فإن الجنوبيين يشعرون بالغبن، وقد أوجد هذا الشعور بيئة مواتية لتنامي الدعوات الانفصالية واشتدادها بين الفينة والأخرى، وكان أعنفها ما حدث في حرب 1994 التي دعمت فيها السعودية هؤلاء الانفصاليين وأمدتهم بالمال والسلاح، ثم ما حدث عام 2017 حينما أمدت الإمارات العربية المتحدة -ضمن التحالف الذي تقوده السعودية- الانفصاليين بالدعم، وأنشأت "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي أُعلن تأسيسه في 11 مايو/أيار من العام 2017 والذي أعلن صراحة أن الجنوب محتل من قبل الشمال، ولم يورد كلمة "اليمن" في خطاباته وبياناته المعلنة، ودعا إلى استعادة "دولة الجنوب العربي" بذات الاسم الاستعماري الوارد ذكره آنفًا، في محاولة لتشطير "الهوية الوطنية" بإسقاط اسم جنوب اليمن من سياقه التاريخي والجغرافي والحضاري وفي مخالفة للقواعد الدستورية والقانونية.
2- مبررات القضية الجنوبية
ظهر إذن على الساحة اليمنية ما بات يعرف بـ"القضية الجنوبية"، وهي جملة من المطالب شكلت قضية وخلقت أزمة استعصت على الحل، وقد طرحت وثيقة الحوار الوطني في موضوع "القضية الجنوبية"، عبر لجنة مخصصة لها، سؤال القضية الجنوبية في أبعادها المختلفة متضمنةً مبررات قانونية واقتصادية وثقافية واجتماعية، لإبراز جوهر تلك المشكلة وتحديد معالمها، وسوف نستعرض مبررين فقط مما ورد في هذه الوثيقة، هما: المبرر القانوني والاقتصادي.
أ- مبررات قانونية
عرضت وثيقة الحوار الوطني 13 مبررًا قانونيًّا قالت إنها من أسباب وجود مشكلة الجنوب. من أبرز هذه المبررات: عدم وضوح الأسس والآليات التي قامت عليها الوحدة الاندماجية، وهذا السبب أفصح عنه عند قيام الوحدة فريقٌ واسع داخل قيادة الحزب الاشتراكي الذي لم يكن راضيًا عن صيغة الوحدة الاندماجية الفورية، وفي مقدمتهم: حيدر أبو بكر العطاس الذي كانت تعني له الوحدة اليمنية وحدة طوعية وليس إخضاع طرف للطرف الآخر.
ومن المبررات القانونية الأخرى: "الارتداد عن أحكام دستور دولة الوحدة والتحول إلى الحكم الفردي"، وهذا الاستحواذ على السلطة، والاستفراد بها، دفع بفريق جنوبي واسع للمطالبة بـ"التناصف الكامل للسلطة"، كما جاء في "وثيقة العهد والاتفاق" الموقعة بين شريكي الوحدة بالعاصمة الأردنية، عمَّان، برعاية الملك الراحل، الحسين بن طلال، غير أنه تم القفز إلى مطلب الانفصال مباشرة واندلعت على إثر ذلك حرب 1994 بين الشمال والجنوب.
ولم تنطفئ جذوة المطالبة بالانفصال رغم الحفاظ على الوحدة بالقوة وتغلُّب حزب المؤتمر الشعبي العام وحلفائه في الشمال على الحزب الاشتراكي وحلفائه في الجنوب، فقد توسعت حركة الاحتجاجات السلمية حتى بلغت مداها على شكل هبَّة شعبية يوم 7 يوليو/تموز 2007، وكان أهم المبررات في قرار لجنة القضية الجنوبية اتهام السلطات بـ"قمع الحراك السلمي وسقوط شهداء وممارسة الاعتقالات والإخفاء القسري، وانتهاك الحقوق والحريات، والاعتداء على حرية الصحافة، وممارسة الإقصاء بتسريح الموظفين الجنوبيين، المدنيين والعسكريين، بعد حرب 1994".
ب- مبررات اقتصادية
كان النظام السياسي في الجنوب اليمني نظامًا اشتراكيًّا يقوم على احتكار الدولة للأنشطة الاقتصادية ولا يسمح بالملكية الخاصة، وقد تضمنت وثيقة الحوار الوطني في هذا السياق 15 سببًا اقتصاديًّا قالت إنها كانت أهم مبررات بروز مشكلة الجنوب واستمرارها دون حل، من أبرزها سياسة تصفية القطاع العام تحت اسم الخصخصة وتسريح العاملين فيه، وعدم توفير أموال لتطوير هذا القطاع وإعادة تأهيله، وتوزيع مزارع الدولة على المتنفذين في السلطة الموالية لصنعاء، بما في ذلك "منحهم امتيازات اكتشافات نفطية، وعقود الخدمات النفطية، وفرض إتاوات على الشركات الاستثمارية والنفطية، وإفشال ميناء عدن، والعبث بالثروة السمكية، وتحويل مطار عدن إلى مطار محلي".
3- مقاربة حل قضية الجنوب
توصل اليمنيون من خلال الحوار الوطني إلى معرفة جذور مشكلة الجنوب والأسباب التي حالت دون التعامل بجدية مع هذه المشكلة حتى يتم حلها، وكانت مقاربة الحل تنبع في إطار الهوية الوطنية اليمنية الجامعة، وفي سياق الدولة الفيدرالية الاتحادية داخل يمن اتحادي جديد، ووفق مبادئ دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية، وعبر صياغة عقد اجتماعي يتمثل بدستور جديد يُرسي وحدة الدولة الاتحادية وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، والاعتراف الكامل بـ"الأخطاء المؤلمة والمظالم التي ارتُكبت"، ومن خلال عملية انتقالية سلمية تتم بمشاركة وتعاون جميع الأطراف.
فأبانت مخرجات الحوار إذن، من خلال فريق القضية الجنوبية، عن الأسباب الموضوعية التي أدت إلى المناداة بالانفصال، وكان بالإمكان المضي في تنفيذ هذه المخرجات حلًّا لمشكلات اليمن عمومًا والجنوب على وجه الخصوص غير أن "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي يحظى بدعم الإمارات كانت له مقاربة أخرى، واتخذ أساليب ووسائل لتنفيذ ما يراه بالقوة، فقام بانقلاب، في السابع من أغسطس/آب 2019، سيطر بموجبه على عدن، وفتح الباب أمام جولة جديدة ومتجددة من الصراع لا تقتصر على محافظة عدن وحدها بل والمحافظات المجاورة لها، مثل: أبين والضالع وشبوه ولحج وحضرموت.
انقلاب عدن
رفض المجلس الانتقالي الجنوبي أن يخوض -كغيره من المكونات السياسية- تنافسًا سلميًّا في الساحة السياسية، بل مارس صراعًا عنيفًا مع نظام الرئيس، عبد ربه منصور هادي، ولم يعترف بشرعيته، وسعى إلى إسقاطه وتغييره بالقوة، وما حدث في مدينة عدن، يوم السابع من أغسطس/آب (2019)، يوصف بأنه انقلاب متكامل الأركان، تمَّ بدعم إماراتي معلن، وفي ظل صمت سعودي أتاح الفرصة للانتقالي كي يستكمل انقلابه بنجاح.
دعا هاني بن بُريك، نائب رئيس المجلس الانتقالي، يوم 7 أغسطس/آب 2019، الشعب الجنوبي والقوات المسلحة والمقاومة الجنوبية "لاقتحام القصر الرئاسي في معاشيق لإسقاط الخونة"، على حد وصفه، مدشِّنًا الانقلاب، في مشهد مشابه لانقلاب صنعاء الذي تم بتخطيط ودعم خارجي أيضًا. وعلى إثر ذلك، تحركت ألوية الحزام الأمني التابعة له، لمهاجمة القوات الحكومية والسيطرة على المؤسسات، وكان تسليحها بعتاد أقوى وأكثر من القوات الحكومية، فضلًا عن استغلاله الغضب الشعبي الذي صاحب مقتل العميد محمد المشالي (اليافعي) ووجود قبليين مسلحين غاضبين لمقتله أثناء تشييع جنازته، كما استغل الوضع الدفاعي المأزوم للقوات الحكومية داخل خليج عدن والأحياء المحيطة بالقصر الرئاسي، وبدأ هجومه ضد تلك القوات، التي انهزمت في نهاية المطاف رغم ما أبدته على مدى أربعة أيام من دفاع مستميت.
وطيلة هذه الفترة لم تتحرك السعودية –الحليف المفترض للقوات الحكومية التابعة للرئيس هادي- لإيقاف ما يحدث رغم وجود قوات لها على الأرض في عدن وبعض المحافظات الجنوبية، وتركت الباب مفتوحًا أمام الإمارات لمواصلة دعمها للمجلس الانتقالي وقوات الحزام الأمني، فكانت النتيجة أن نجح التمرد. وقد عبَّر مندوب اليمن في الأمم المتحدة عن ذلك بقوله: "لولا الدعم الكامل الذي وفرته الإمارات تخطيطًا وتنفيذًا وتمويلًا لهذا التمرد ما كان له أن يحدث". وحمَّل بيان الحكومة "دولة الإمارات العربية المتحدة المسؤولية الكاملة عن التمرد المسلح لميليشيا ما يُسمى بالمجلس الانتقالي وما ترتب عليه"، ودعاها إلى "إيقاف كافة أشكال الدعم والتمويل لهذه الميليشيات".
ولم تُخفِ الإمارات دعمها لمجموعات مسلحة بأسماء مختلفة، كما نُسب إلى أحد مسؤوليها، في معرض حديثه عن عدم خشيته من حدوث فراغ أمني في اليمن عقب تقليص الإمارات قواتها هناك، قوله: "لا يعترينا أي قلق بشأن حدوث فراغ في اليمن لأننا دربنا 90 ألف جندي يمني". وإذا كانت الإمارات لم تُخفِ دعمها للمجلس الانتقالي وتشجيعه على الانقلاب فإنَّ صمت السعودية المريب في تلك الأثناء ذهب بالتفسيرات إلى أن ما حدث كان بعلمها وأنها تركته يمر بإرادتها، ويبني أصحاب هذا الاتجاه رأيهم على عدة دلائل:
- أنها صمتت -حسب تصريح وزير الداخلية "لمدة أربعة أيام، وشريكُنا في التحالف يذبحنا من الوريد إلى الوريد"-، ولم تتدخل لمنع الانقلاب. مما فهمه المجلس الانتقالي على أنه ضوء أخضر للمضي قدمًا في إتمام السيطرة على المعسكرات والمؤسسات الحكومية.
- أنها طلبت من القوات التابعة للشرعية، ومن القيادات العسكرية على الأرض التسليم والانسحاب، وتولت مهمة "ترحيلهم عبر مطار عدن إلى الرياض"، وهو ما أثار الكثير من الشكوك حول تصرفها على هذا النحو، وبدا تدخلها شكليًّا لا يزيد عن كونه امتصاصًا لغضب لحظي وتخفيفًا من أي رد فعل غاضب يأتي بعد ذلك تجاه دول التحالف وبقائها في اليمن.
- أنها وعدت بالتدخل لسحب قوات المجلس الانتقالي وإعادة الأمور إلى نصابها عبر لجنة سعودية تم تشكيلها لهذا الغرض، وقد رد المجلس الانتقالي على هذا الوعد بمزيد من التحدي، وتمكن بعد أسبوع من المواجهات من استكمال مهمة الانقلاب في عدن ومحافظة أبين التي تبعد عنها 80 كيلو مترًا، ثم استمرت قواته بالزحف إلى عتق، عاصمة شبوة، التي تبعد عن عدن أكثر من ثلاثمئة كيلومتر.
- لم تذهب السعودية والإمارات -في بيانهما المشترك- إلى توصيف ما حدث بعدن بأنه "انقلاب على السلطة" ولكنهما وصفاه بـ"خلاف داخلي" يمكن حله بالحوار، ودعت أطراف النزاع إلى "الوقف الفوري لإطلاق النار، وتسليم المقرات المدنية في (عدن) للحكومة الشرعية تحت إشراف قوات التحالف والترحيب بدعوة المملكة للحوار في (جدة)".
ويراهن المجلس الانتقالي على دعم دول التحالف له ورضاها عنه بحثًا عن سلطة تمكِّنه من حكم الجنوب، سواء تحت عنوان الشرعية أو الفيدرالية أو الانفصال. ومن جهتها، فإن دول التحالف تستعمله ضمن أوراق ضغط أخرى لإضعاف السلطة الشرعية من أجل التحكم التام بالمشهد اليمني. وبعد أقل من شهر، شنَّت القوات الحكومية التابعة للرئيس، عبد ربه منصور هادي، هجومًا مضادًّا على قوات المجلس الانتقالي والحزام الأمني والنخبة الشبوانية، ودارت معارك عنيفة سيطرت بعدها تلك القوات لبضع ساعات على بعض المقرات والمواقع الحيوية في عدن لكنها سرعان ما عادت وانهزمت مرة أخرى بعد الضربات الجوية التي وجهتها الطائرات الحربية الإماراتية على جنودها وعقب الدعم والإسناد الذي تلقته قوات الحزام الأمني من أبوظبي.
ورغم ما يبدو على السطح من سيطرة المجلس الانتقالي على عدن فإنه من غير المرجح أن تستقر الأوضاع طويلًا بالنسبة له، وذلك للأسباب التالية:
- أن المزاج الشعبي في اليمن في عمومه يرفض التقسيم، والمواطنون يلتفون حول مشروع الدولة الاتحادية.
- ينص الدستور اليمني على أن اليمن جزء واحد غير قابل للتجزئة، وهو عضو في الأمم المتحدة على هذا الأساس.
- أن القرارات الدولية كلها تؤكد على وحدة اليمن وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله. وقد أكد البيان المشترك للإمارات والسعودية في جدة على ذلك، وإن بدا سلوكهما على الأرض غير مطابق للقول.
- أن إجراءات الانفصال معقدة، ولا يتم فرض مثل هذا الانفصال بالانقلاب مهما كانت قوة من يسيطرون على الأرض.
- أن المواجهات في شبوة بين قوات الانتقالي المهاجمة وبين القوات الحكومية والمقاومة المحلية سارت على نحو مختلف، وأفشلت مخطط الانقلاب الانفصالي، بسبب طبيعة المجتمع القبلي في شبوة، وعدم رضاه بما قام به الانتقالي، وظهر الموقف ذاته في محيط شبوة الجغرافي، شرقًا في حضرموت وغربًا في مأرب؛ إذ رفضوا جميعًا الانقلاب المدعوم إماراتيًّا.
أسباب ضعف الدولة اليمنية وسلطاتها الشرعية
من المنظور الاجتماعي الشعبي فإن الإمارات والسعودية تمارسان سلوكًا احتلاليًّا، لكن بأسلوبين مختلفين؛ فأبوظبي تمارس الاحتلال الخشن بالتخريب والعداء المعلن لوحدة اليمن وسلامة أراضيه، بينما تمارس الرياض الاحتلال الناعم القابل للإنكار والتكذيب، وإبقاء نفسها في الوعي العام على أنها دولة صديقة يمكن الاعتماد عليها في إنقاذ اليمن، بينما الواقع يقول غير ذلك.
يتجسَّد هذا السلوك الاحتلالي في نشر السعودية والإمارات قواتهما على الأرض بعيدًا عن مناطق المواجهات "المهرة-سقطرى"، وممارسة سياسة السيطرة والتحكم بالقرار العسكري عن طريق السماح بتحريك الجبهات وقتما يشاءان وعدم تحريكها حينما يريدان، أو بالتدخل السياسي المباشر من خلال: التعيين والعزل، وسير المرافق الحكومية بالموافقة أو الاعتراض على قرارات رئيس الجمهورية كما تريدان وليس على النحو الذي تريده الحكومة اليمنية المكبَّلة بقيود تدخُّلات دول التحالف.
وقد تقاسمت السعودية والإمارات توزيع المهام والنفوذ على الجغرافية اليمنية، فالسعودية دخلت بقواتها إلى الأراضي اليمنية الحدودية في المحافظات الشرقية والشمالية، مثل: المهرة، وحضرموت، وشبوة، والجوف، وصعدة، وهي موضع أطماع السعودية باعتبارها مناطق نفوذ تخصُّها ولا تقبل منازعتها فيها، سواء من السلطات اليمنية -صاحبة الاختصاص- أو من الإمارات شريكتها في التحالف.
وبالمقابل، فقد تمددت الإمارات بحرًا في كل السواحل والموانئ والجزر اليمنية وخطوط المياه الدولية، وأنشأت لنفسها قوات عسكرية موازية تتبعها ولا تخضع لسيطرة الحكومة، ووضعتها تحت تصرف المجلس الانتقالي الانفصالي، وقد أدت سياسة التغاضي السعودي عن الإجراءات الإماراتية إلى إضعاف القوات الحكومية وعجزها عن الدفاع عن مؤسسات الدولة، وانعدام قدرة السلطة الشرعية على ممارسة سيادتها على الأرض والتحكم بالقرار، وخضوع القرار اليمني لدول التحالف.
وقد مارست دول التحالف علنًا سياسة إضعاف السلطة الشرعية على الأرض، وحجزها في المنفى بطريقة تثير الاستغراب، فقد مُنع الرئيس، عبد ربه منصور هادي، من مغادرة مطار الرياض نحو اليمن، كما منعت القوات الإماراتية طائرة الرئاسة التي كانت تُقِلُّه من الهبوط في مطار عدن، ومارست حصارًا شاملًا على اليمنيين؛ جوًّا وبرًّا وبحرًا، حتى إن الإمارات لم تسمح للطيران المدني (طيران اليمنية) بالمبيت في أيٍّ من مطارات الدولة اليمنية، وأجبرته على المغادرة الفورية للمبيت في مطارات أجنبية مما كلَّف الشركة أموالًا باهظة.
إنَّ الضعف الذي آلت إليه الدولة اليمنية وسلطاتها الشرعية أتاح للإمارات التحكم بالقرار على الأرض والتصرف كما لو كان اليمن أرضًا إماراتية وليس دولة مستقلة ذات سيادة وفق القانون الدولي، وكلتا الدولتين متهمتان بتمويل الصراعات البينية داخل المكونات اليمنية الداعمة لدول التحالف أو المناهضة له، واستقطاب عناصر لهما في كل المكونات الاجتماعية في اليمن من مدنيين، وعسكريين، وقبائل، ومشايخ قبائل، ورجال دين، ومثقفين، وإعلاميين، وسلفيين، وجماعات إرهابية، وجواسيس. لكن ما قام به المجلس الانتقالي وبقية القوات التابعة للإمارات وضع السعودية في موقف ضعف، وهزَّ صورتها كثيرًا أمام حلفائها داخل اليمن، كما أثَّر سلبًا على موقفها إقليميًّا ودوليًّا.
مستقبل الشرعية اليمنية
من العسير فهم حيثيات المشهد اليمني وانقلاب عدن وخروج قوات الشرعية وتوقع مستقبل الشرعية في اليمن دون النظر إلى مكوِّن السلطة الشرعية وبنيانها، وتسليط الضوء على ما يمكن وصفه بتنافرها الداخلي، وعلى علاقاتها الشائكة فيما بينها من جهة وفيما بينها وبين دول التحالف من جهة ثانية، ومن ثمَّ يمكن استشراف مستقبل هذه السلطة وما إن كانت -بوضعها الحالي- قادرة على قيادة اليمن نحو الحل المفضي إلى دولة موحدة يشارك الجميع في بنائها أم أن الأمور بصدد الذهاب إلى منحى آخر.
أ- سلطة غير متجانسة
جعلت المبادرة الخليجية من الرئيس، عبد ربه منصور هادي، رئيسًا "حَكَمًا بين الأطراف"، مهمته تعيـين رئيس للحكومة من المعارضة، وتشكيل الحكومة بالتناصف بين الفرقاء، وقيادة البلاد خلال عامين إلى انتقال سياسي دستوري ينتهي بالاستفتاء على الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية؛ لكن الأمور لم تسر على النحو الذي أرادته المبادرة الخليجية، فقد جمع بيده عديد السلطات والصلاحيات، واستدعى التدخل الدولي بعد انقلاب الحوثيين وإسقاط الدولة، ثم استدعى لاحقًا السعودية التي شكَّلت تحالفًا للتدخل العسكري بدون أية اتفاقيات دولية ضابطة لهذا التدخل، وفي ظل تعطيل مفاعيل السلطة التشريعية، وإدارته لشؤون اليمن من منفاه بالرياض.
وبالنظر إلى مكوِّن فريق الشرعية الحكومي وطريقة عمله، يتضح أنه هذا الفريق غير قادر على إدارة الصراع اليمني والوصول بالبلاد إلى ما تريده من إنهاء الصراع وعودة الاستقلال للقرار السياسي اليمني. فهو فريق غير متجانس، وينقسم إلى عدة مكونات لا قرار موحَّدًا لها:
- جزء في الشرعية موال للسعودية بالمطلق، ويعتد بها كمنقذ لليمن ومُخَلِّص له، ويوجِّه الاتهام حصرًا للإمارات.
- وجزء آخر في الشرعية موال للإمارات ضد الشرعية وضد اليمن عمومًا، ويحرص على استمرارية علاقته بها كمموِّل وكفيل.
- وطرف ثالث يتوجس من الإمارات والسعودية، ويرى فيهما دولًا محتلة، تُكِّنُ العداءَ لليمن، وتتربص بها شرًّا، وينقسم هذا الطرف إلى شقين: أحدهما يُظهِرُ رأيه علنًا، وقد عوقب على ذلك بالعزل والإبعاد، والآخر يُضمِرُ ذات الموقف لكنه لا يصرِّح به، ويدخل ضمن هذ القسم شخصيات وأحزاب.
فكيف يمكن لمكونات السلطة، وهي بهذا التشظي والتضاد أن يُعَوَّلَ عليها في حل المشكلة اليمنية، وإنقاذ اليمنيين، وقد أنتج هذا الوضع انقسامات وسينتج المزيد منها لاحقًا، وما حدث في عدن بعض تجلياتها.
نتيجة لطبيعة السلطة الشرعية وتكوينها الراهن غير المتجانس ومتعدد الولاءات المُعلنة والمُضمرة، فإن الأداء السياسي لها، سواء على المستوى الرئاسي أو الحكومي، تميز بالضعف
ب- أحزاب متعددة الولاءات
هناك الأحزاب الداعمة للشرعية بحكم الضرورة الوطنية، وبعضها يقترب أو يبتعد من الشرعية بقدر حصته من المكاسب والمحاصصة بتقاسم المناصب. وهناك أحزاب متعددة الولاءات؛ فهي مقسومة على اثنين أو ثلاثة أو أربعة، فجزء منها مع الشرعية، وجزء مع الحوثيين، وجزء مع الإماراتيين، وجزء مع السعوديين، وجزء مع المشروع الوطني وفق نموذج المؤتمر الشعبي العام، وبعضها متهم بالتشبيك مع قطر وتركيا ضد دول التحالف، والجميع متهم بالبحث عن المكاسب الفئوية والشخصية دون النظر إلى الأضرار والمخاطر التي تحل على البلاد والتي لن يكون آخرها انقلاب عدن ثم العودة عنه، بل قد يتعداه إلى صراعات جهوية قابلة للاتساع. إنَّ هذا الضعف المؤسسي للشرعية لهو أحد أسباب انهزام القوات الحكومية أمام قوات المجلس الانتقالي في عدن قبل أن تتدخل السعودية وتعيد رجحان الكفة مرة أخرى، ويقابله وينتج عنه ضعف في الأداء السياسي.
ج - ضعف الأداء السياسي
ونتيجة لطبيعة السلطة الشرعية وتكوينها الراهن غير المتجانس ومتعدد الولاءات المُعلنة والمُضمرة، فإن الأداء السياسي لها، سواء على المستوى الرئاسي أو الحكومي، تميز بالضعف، ولهذا الضعف مظاهر عدة:
- صمت السلطة الشرعية تجاه العثرات على الدوام وليس آخره الصمت الذي أبدته في الأيام الأولى لانقلاب عدن والذي وصفه وزير الداخلية بـ"خذلان غير موفق من الشرعية".
-غياب الإسناد المعنوي من السلطة الشرعية لقواتها على الأرض عبر الإعلام والدعوة إلى النفير العام.
-لم تعلن الحكومة موقفها من الانقلاب، ومن دولة الإمارات الداعمة له، إلا متأخرًا، وبعد تمدد الانقلاب شرقًا باتجاه محافظة شبوة.
-غياب الإمداد المباشر للقوات الحكومية في عدن بأي دعم رغم إحاطة قوات الشرعية بقوات المجلس الانتقالي التي تعززت بإمدادات تابعة للإمارات من الضالع ويافع، وفي ظل انقطاع عدن عن محيطها الغربي الواقع تحت سيطرة العمالقة والقوات المشتركة التي تخضع أيضًا للإمارات، ورغم ذلك فقد صدر بيان عن الحكومة يشيد بـ"التضحيات الجسيمة التي اجترحتها دولة الإمارات العربية المتحدة، قيادةً وشعبًا، حيث امتزج الدم الإماراتي بالدم اليمني في سهول وجبال يمننا الغالي"، حسب وصف البيان.
خاتمة
يتضح من العرض السابق أن اليمن الحضاري-الثقافي الذي منح اليمنيين هويتهم غير قابل للتجزئة، بينما اليمن السياسي مرشح للانقسام والانشطار كما حدث في بعض فتراته التاريخية إذا استمر الصراع الداخلي على حاله، وبقيت البلاد ميدانًا لتصفية الحسابات، وساحة للحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية المتصارعة، ونهبًا لأطماعها، وأن هذه الحالة سوف تستمر ما لم يحدث تغيير حقيقي وجوهري في معادلات الصراع ودينامياته.