[ الإمارات دعمت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي مما أسفر عن الحرب الدائرة ضد الحكومة الشرعية (روبترز) ]
لا يكاد تاريخ مدينة عدن يخلو من الحروب وينعم بالاستقرار، فلا تنتهي المدينة من حرب حتى تستعد لأخرى، وقد خيض فيها أربعة حروب مفصلية خلال الثلاثين عاما الأخيرة فقط، وحتى فترات استقرارها كان نصيبها التهميش والإهمال، وهي درة مضيق باب المندب، وأحد أهم الممرات المائية في العالم.
في العام 1839 احتلت بريطانيا عدن، ورغم مساوئ كل احتلال فإن المدينة شهدت انتعاشا اقتصاديا كبيرا واستوطنها كثير من الفرس واليهود والهنود بعد أن جعلتها بريطانيا العظمى واسطة العقد بين التاج البريطاني في لندن والهند البريطانية، وأصبحت عدن ثاني أكثر موانئ العالم نشاطا بعد نيويورك.
وحين قامت ثائرة اليمنيين في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963 أدرك البريطانيون أنه لن يطول بهم البقاء في عروس باب المندب، فأعلنت أنها ستخرج بعد خمس سنين، ليبدأ الاقتتال الداخلي بين فصائل "المقاومة" لاحتكار تقرير المصير بعد جلاء الإنجليز.
بعد أن عاشت عدن في مستعمرات منفصلة غذاها الاحتلال البريطاني، عجل احتدام الاقتتال ضدها موعد خروجها، فأجلي آخر جندي بريطاني يوم 30 سبتمبر/أيلول 1967، ليستقر الوضع بعد الجلاء للجبهة القومية للتحرير وزعيمها قحطان محمد الشعبي الذي أعلن الاستقلال وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، في احتفالية حضرها اليمنيون من كافة مناطق الجنوب.
لم يطل البقاء بقحطان -وقد استقبل في عدن استقبال الفاتحين- أكثر من عامين حتى حيكت ضده مؤامرات رفاقه الاشتراكيين، فقاموا بما أسموها "حركة تصحيحية" اعتقلوا خلالها قحطان وغيروا اسم البلاد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، متوغلين أكثر في الجانب الأيدولوجي للماركسية.
حرب 86
رقصت عدن بعد ذلك على أنغام الاشتراكية التي كان يعزفها الاتحاد السوفياتي في موسكو، وعاشت أعواما من التأميم للموانئ ومصادرة الملكيات الخاصة، وكان ميناء عدن مصدر الدخل الأكبر للجمهورية.
غير أن الرفاق لم تطل بهم الصحبة فدبت بينهم الخلافات والاغتيالات حتى انتهت إلى حرب دموية عرفت بأحداث يناير/كانون الثاني 1986 التي قتل فيها الآلاف من قيادات الحزب الاشتراكي وكوادره، وكانت التصفيات حينها تتم وفق فرز مناطقي، غير أن عددا من القيادات -ومنهم الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي- فروا إلى الشمال الذي استضافهم وقدم لهم التسهيلات، وتقلد حينها الرئيس علي سالم البيض مقاليد الحكم في البلاد.
خرجت عدن منهكة من حربها الأهلية تلك وتبدى الفارق التنموي بين شطر يرزح تحت سياسات اقتصادية متراجعة وسياسة متسلطة، وبين شطر يعيش نوعا من الرخاء الاقتصادي والحرية السياسية. كما سقطت بعدها راية الاشتراكية في معقل معسكرها الشرقي بموسكو، مما حدا بعدن أن تولّي وجهها شطر الشمال فتكللت المساعي بالوحدة بين الجانبين في مايو/أيار 1990.
حرب 94
مجددا لم تهنأ عدن بالسلام، فبعد أربع سنوات فقط من الوحدة، اندلعت حرب 94 التي سميت حرب الانفصال، إثر خلافات بين شريكي الحكم: حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبد الله صالح، ونائبه زعيم الحزب الاشتراكي علي سالم البيض.
ورغم أن الحرب انتهت لصالح الوحدة بزعامة صالح، وشهدت عدن تحسنا اقتصاديا وعودة النشاط إلى مينائها الحيوي، فإن الحكم في الشمال اتُّهم بتهميش المدينة وإقصاء أبنائها من الوظائف العسكرية والمدنية، إضافة إلى عدم حصولها على نصيبها الكافي من التنمية وهي ترفد خزائن الدولة بإيرادات الميناء إلى جانب نفط المحافظات المجاورة، وهي المظالم التي استندت إليها مظاهرات وتحركات جنوبية عدة أسفرت عن قيام "الحراك السلمي الجنوبي".
حرب 2015
ولأن قدر عدن أن تظل هدفا لفوهات البنادق المختلفة، فقد عاشت مرة أخرى على وقع الحرب بعدما سيطرت مليشيا الحوثي وقوات صالح الموالية لها على العاصمة صنعاء في انقلاب على حكومة الرئيس هادي يوم 7 مارس/آذار 2015، وفرّ إليها الأخير وأعلنها عاصمة مؤقتة للبلاد. غير أن قوات موالية لصالح سيطرت على مطار عدن ومناطق واسعة من المدينة، ليستنجد هادي بعدها بالسعودية والإمارات اللتين خاضتا حربا إلى جانب المقاومة الشعبية وقوات من الجيش الوطني.
وبعد أربعة أشهر من الحرب تمكنت القوات الموالية لشرعية هادي أن تستعيد المدينة وتعيد فتح المطار، غير أن حربا أخرى دُفنت بذورها في تربة عدن حين تشكلت قوات عسكرية خارجة عن سيطرة الحكومة الشرعية، وأعلن عما يسمى الحزام الأمني الذي دعمته دولة الإمارات وصارت عدن تدار في طرف منها من قبل الحكومة وفي الطرف الآخر من قبل قوات الحزم.
نمت بذور الحرب وصار الحزام الأمني يتمدد في المدينة على حساب الشرعية، بل وعلى مرأى ومسمع منها ومن حليفها الإستراتيجي السعودي، حتى تشكل المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة عيدروس الزبيدي ونائبه هاني بن بريك، ودعا لإعادة العجلة إلى الوراء مطالبا بانفصال الجنوب، وكلل مطالبه على الأرض بتحركات عسكرية ضد قوات الحكومة الشرعية.
وفي مشهد درامي حير القريب والبعيد، سيطرت قوات المجلس الانتقالي على عدن بعد أربعة أيام فقط من القتال بين الطرفين، لتعود القوات الحكومية بعد نحو أسبوعين وتسيطر على المدينة من جديد. وما زالت المناوشات قائمة بين الطرفين، لتبقى عدن -التي تقع جغرافيا على فوهة بركان- نموذجا فاقعا للاقتتال الداخلي والحرب الأهلية بين أبناء البلد الواحد.