[ الهدنة صامدة في الحديدة رغم بعض الخروقات ]
بعد أن بات واضحاً أن معركة الحديدة التي انتظمت وفقها أولويات المرحلة الماضية في البلاد، انتهت بعد ضغط دولي بالتوصل إلى اتفاق سياسي، على الرغم من استمرار الخروقات التي تهدد هذا الاتفاق، فإن تساؤلات كثيرة تُطرح اليوم حول مصير العديد من ملفات الحرب والوضع السياسي في البلاد، مع استمرار أغلب جبهات الحرب في أكثر من محافظة يمنية وصولاً إلى الحدود مع السعودية، ومثلها الملفات السياسية، مفتوحة على احتمالات متعددة، وتنتظر تقرير مصيرها في الأشهر المقبلة.
ولا تزال الأنظار تتجه إلى الحديدة، مع سعي أممي ودولي لتطبيق اتفاق السويد الذي نصّ على وقف إطلاق نار في المحافظة، دخل حيز التنفيذ في 18 ديسمبر/كانون الأول الحالي، وسط تبادل اتهامات من طرفي النزاع، الحكومة والحوثيين، بخرقه.
وعقدت "لجنة تنسيق إعادة الانتشار"، المعنية بالإشراف على التهدئة في مدينة الحديدة، أول اجتماعاتها أمس، برئاسة كبير المراقبين الدوليين، الجنرال الهولندي باتريك كاميرت، بحضور أعضاء عن جماعة الحوثيين وآخرين عن الحكومة اليمنية. واللجنة مكلّفة بـ"مراقبة وقف إطلاق النار" في محافظة الحديدة، وتطبيق بندين آخرين في اتفاق السويد ينصان على انسحاب الحوثيين من موانئ المحافظة، ثم انسحاب الأطراف المتقاتلة من مدينة الحديدة.
وقبيل الاجتماع الأول للجنة، اندلعت اشتباكات جديدة في مدينة الحديدة. وتردّدت في القسم الشرقي من المدينة، في الساعات الأولى من صباح أمس الأربعاء، أصوات طلقات مدفعية واشتباكات بالأسلحة الرشاشة، وفقاً لوكالة "فرانس برس". وتبادل الطرفان الاتهامات بالخروقات، وقال مصدر في التحالف السعودي الإماراتي لـ"فرانس برس" الثلاثاء إن عشرة عناصر من القوات الموالية للحكومة قُتلوا وأصيب 143 بجروح في محافظة الحديدة منذ بدء الهدنة. من جهتهم، أفاد الحوثيون مساء الثلاثاء عبر قناة "المسيرة" المتحدثة باسمهم بأن القوات الحكومية "خرقت الاتفاق 31 مرة" في الساعات الـ24 الأخيرة. وذكر متحدث باسم الحوثيين، أن الخروقات تركزت في اتجاه المديريات البعيدة عن تواجد فريق ولجان المراقبة، كحيس والدريهمي ومنطقة كيلو 16.
وعلى الرغم من الخروقات المحدودة، فإن التهدئة في الحديدة بقيت صامدة خلال الأيام القليلة الأخيرة، في مقابل عودة المواجهات بين القوات الحكومية ومسلحي الحوثيين إلى جبهات كان الجمود أو الاشتباكات المحدودة يلفانها طوال الأشهر الماضية. وأفادت مصادر عسكرية يمنية لـ"العربي الجديد"، بأن جبهة مديرية نِهم شرقي صنعاء، شهدت في الأيام الماضية مواجهات عنيفة إثر محاولات زحف وهجمات تبادل فيها الطرفان الاتهامات، وقُتل وجرح على أثرها العشرات من الطرفين.
وكانت نِهم، على مدى ما يقارب الثلاثة أعوام، ساحة معارك متقطعة، تتصاعد وتيرتها من حين لآخر، منذ بدء القوات الموالية للشرعية في مأرب (وسط البلاد) عمليات للزحف نحو العاصمة صنعاء، عبر بوابة نِهم. إلا أن جملة عوامل عسكرية وسياسية وجغرافية مرتبطة بالتضاريس، حيث الجبال الشاهقة، جعلت منها معركة استنزافية للطرفين، وسحبت منها الأضواء صوب معركة الساحل الغربي، التي بلغت ذروتها باقتراب الاشتباكات من وسط مدينة الحديدة ومن ثم اتفاق استوكهولم الموقّع برعاية الأمم المتحدة.
إلى جانب شرق صنعاء، كانت مديرية صرواح غرب مأرب، هي الأخرى ساحة لاشتباكات بين القوات الحكومية التي تتخذ من مأرب مركزاً عسكرياً لها، وبين الحوثيين الذين لا يزالون يحتفظون بالسيطرة على أجزاء من هذه المديرية الهامة، وأشاعوا في الأيام الماضية، بالتزامن مع عودة المواجهات، أنباء عن تقدّمهم في مناطق مهمة، وهو ما سارعت الشرعية إلى نفيه.
وتتّجه الأنظار إلى نِهم وصرواح، إلى جانب جبهات المواجهات في محافظات الجوف والبيضاء وتعز وأطراف الضالع على الحدود مع إب (جبهة دمت)، بوصفها مناطق الاشتباكات المفتوحة المرشحة للتصعيد مجدداً، عقب التدخّل الدولي الذي وضع حداً لمعركة الحديدة باتفاق على ترتيبات أمنية مشتركة، تشرف عليها الأمم المتحدة.
وفي السياق، يبرز التصعيد في جبهات بديلة عن الحديدة على رأس السيناريوهات العسكرية للمرحلة المقبلة، إذ ينظر الرأي الغالب في أوساط الشرعية، إلى أن مآل معركة الحديدة جاء مفروضاً دولياً من دون المستوى المرجو بإنهاء سيطرة الحوثيين على المدينة، حتى اليوم على الأقل، في وقتٍ يواصل فيه الحوثيون السيطرة على أغلب محافظات شمال البلاد، بما فيها العاصمة صنعاء. ومن المتوقع أن تسعى القوات الحكومية إلى تفعيل جبهات بديلة تحاول من خلالها انتزاع السيطرة على مناطق جديدة من أيدي الحوثيين.
وفي الوقت الذي تُعتبر فيه معارك الشريط الحدودي مع السعودية، عنواناً محورياً في تطورات الحرب وملفاتها بما هي حرب الحوثيين المباشرة مع السعودية، من غير المستبعد أن تكون الحدود هي المحطة المقبلة لاتفاق تهدئة على غرار الحديدة. وحضرت قضية الحدود بالفعل، في تصريحات المسؤولين الأميركيين والبريطانيين خلال الحديث عن أهمية وقف الحرب وبالإشارة إلى أهمية إيجاد حدود آمنة (قد تلزم الحوثيين بالانسحاب مسافة عشرات الكيلومترات تكون منطقة عازلة على الحدود). كما أن معركة الحدود مفتوحة على مسارات أخرى، كتفاهمات حوثية سعودية مباشرة، على غرار ما كان بدأ من قبل الطرفين في العام 2016 بـ"اتفاقات ظهران الجنوب"، والتي انهارت في وقتٍ لاحق.
في السياق ذاته، يأتي السيناريو الآخر، والأكثر رعباً بنظر العديد من اليمنيين، ويتمثل في تقسيم اليمن بناءً على الأمر الواقع، الذي تفرضه السيطرة العسكرية، فيحتفظ الحوثيون بالسيطرة على صنعاء وأغلب محافظات شمال وغرب البلاد، في مقابل سيطرة القوات الموالية للشرعية - أو الشق "الشمالي" من هذه القوات، في محافظة مأرب وأجزاء متفاوتة من محافظات الجوف والبيضاء وتعز وحجة والحديدة تضاف إليها مناطق حدودية في محافظة صعدة على السعودية. في حين تسيطر في الجنوب، قوات ذات انتماء مناطقي جنوبي، وبدرجة ثانية في حضرموت ومحيطها حتى المهرة.
في سيناريو "التطبيع" مع التقسيم، القائم حالياً بدرجة أو بأخرى، بسبب الحرب، يحضر كلا المسارين؛ التسوية على غرار الحديدة، بفرض وقف العمليات العسكرية وسريان اتفاقات بوقف إطلاق النار في مناطق الاشتباك، مع احتفاظ كل طرف بالسيطرة والسلطة في المحافظات الخاضعة لسيطرته. وفي الوقت ذاته، يحضر سيناريو غياب التسويات، ولكن مع استمرار الحرب بوتيرة متقطعة في خطوط الاشتباكات، التي تتفاوت طبيعتها وحصيلتها بين الكر والفر أو التقدّم الذي لا يرقى إلى الحسم. وفي الحالتين، فإن شبح تقسيم اليمن عبر الأمر الواقع، هو السيناريو الأخطر بالنسبة لمرحلة ما بعد اتفاق الحديدة، بالنظر إلى غياب الثقة على الأقل.
في المقابل، يبرز سيناريو ثالث لمصير الأزمة، ويتمثل باستمرار الاختراقات السياسية عبر المسار الذي يقوده المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، والذي يحضّر لدعوة الأطراف إلى المشاركة في مشاورات جديدة في يناير/كانون الثاني المقبل، ليجري التفاوض بشأن كافة القضايا المرتبطة بوقف الحرب على كل جبهات البلاد، والإطار السياسي لمرحلة انتقالية مقبلة تشمل حكومة توافقية تشارك فيها مختلف الأطراف بما فيها الحوثيون، جنباً إلى جنبٍ مع ترتيبات سياسية وأمنية شاملة، تنهي حالة الحرب والانقسام. هذا الأمر يتطلب تنازلات سياسية من قبل الشرعية، في مقابل تنازلات عسكرية من قبل الحوثيين الذين يحكمون السيطرة على العاصمة صنعاء. ويتطلب أي اتفاق في هذا الشأن، إيجاد ترتيبات استثنائية أمنية وعسكرية في العاصمة على الأقل، لتعود حاضنة للحكومة ومختلف الأطراف.
ويمثّل الحديث عن الحل السياسي الشامل، التوجّه المعلن دولياً، والذي تجمع مختلف الأطراف على أن أوانه قد حان، بالاستفادة من الضغوط الدولية القوية التي فرضت اتفاق الحديدة. ولكن في الواقع قد يبدو ضرباً من التمنيات، إذ إن تعقيدات الأزمة أعمق بكثير في ظل الواقع الذي فرضته الحرب، لكن الحل يبقى ممكناً إذا ما توفرت الإرادة اللازمة لدى الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة.