[ الإعلامي خاشقجي اختفى بعد دخوله قنصلية بلاده بإسطنبول التركية في الثاني من الشهر الجاري ]
"أيدينا تستطيع أن تطالك".. تلك كانت -بحسب نيويورك تايمز الأميركية- الرسالة التي أريد لها أن تصل إلى كل معارضي نظام محمد بن سلمان من وراء ما جرى للإعلامي السعودي جمال خاشقجي، وهي الرسالة التي وصلت من قبل إلى صحفيين كثر في مختلف مناطق العالم، عبر دماء زملاء لهم قتلوا بطرق بشعة لإصرارهم على أداء دورهم في مهنة يصفها الجميع بمهنة المتاعب.
خاشقجي، الذي اضطر للفرار من بلاده والإقامة بالولايات المتحدة بعد موجة الاعتقالات التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان وطالت الجميع، ابتداء من أفراد العائلة المالكة إلى الإعلاميين والحقوقيين والعلماء والناشطين على التواصل الاجتماعي؛ اختفى في ظروف غامضة داخل قنصلية بلاده بإسطنبول التركية، في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ويوما بعد يوم، تتكشف حقائق جديدة بشأن هذا الاختفاء، حيث بات من شبه المؤكد أن جمال اغتيل داخل القنصلية، ونقلت جثته داخل شاحنة سوداء.
وفجر اليوم الأربعاء نشرت وسائل الإعلام التركية فيديوهات وصورا لفريق جهاز أمني سعودي مكون من 15 شخصا، وصل إلى إسطنبول بالتزامن مع دخول خاشقجي للقنصلية، وهو ما يؤكد الرواية التي تتحدث عن مقتله بطريقة وصفت بالبشعة، ولم يبقَ سوى انتظار الإعلان الرسمي عن التفاصيل الدقيقة لما جرى.
وأثارت الطريقة التي يرجّح أن خاشقجي قتل بها سخط الدوائر الرسمية في الغرب، حيث انقلب العالم على نظام بن سلمان، وطالب السلطات السعودية بكشف مصيره.
وبالنسبة لكثيرين، فإن فهم أسباب ما جرى لخاشقجي لا يكاد يقل غموضا عن الطريقة التي اغتيل بها، فهو لم يعدّ نفسه يوما معارضا لنظام الحكم السعودي، ولم يكشف في حياته الإعلامية تفاصيل يمكن أن تحرج الرياض، كما لم يكن مؤيدا لأي طرف يطالب بإسقاط النظام السعودي.
مساره الإعلامي معروف، وأنهاه كاتبا في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، ومقيما في أرض الحليف القوي للرياض. وخلال هذا المسار المهني الطويل، عمل أيضا مقربا من دوائر الحكم، واطلع على ملفات وتفاصيل يحسب له أنه بقي محافظا على أسرارها.
بل حتى في انتقاداته لممارسات ضد حقوق الإنسان في بلاده، كان حريصا على الحفاظ على خط الرجوع، ولم يكن يصل لمستوى نفَس المعارضة الذي اعتاد عليه السعوديون من المعارضين المستقرين في بريطانيا. والأربعاء، أكد نهاد عوض -أحد المؤسسين الرئيسيين لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير)- أن خاشقجي رفض مرارا وصفه بالمعارض للحكومة السعودية.
وكان جزاء تلك المواقف، الاغتيال والإخفاء من داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، كما تؤكد المصادر الأمنية التركية.
احمل كفنك
وغير بعيد عن السعودية وقنصليتها، وفي مدينة روز البلغارية تحديدا، وبعد أربعة أيام من اختفاء خاشقجي، وقعت جريمة مماثلة؛ حيث عُثر على الصحفية فيكتوريا مارينوفا مغتصبة ومقتولة في إحدى حدائق المدينة.
فيكتوريا، الصحفية الشهيرة بقناة "تي في أن" البلغارية، كانت قد قدمت قبل مقتلها تحقيقا استقصائيا أنجزه صحفيون متخصصون في هذا النوع من الإعلام في بلغاريا، حول اختلاس مبالغ ضخمة محولة من هيئات الاتحاد الأوروبي.
وقد أشاد زملاء فيكتوريا بشجاعتها في قبول بث التحقيق، مؤكدين أنهم هم أيضا وصلتهم رسائل تهديد بالقتل بسبب الملفات التي يشتغلون عليها، وبينها اختلاس أموال الاتحاد الأوروبي.
وفي فبراير/شباط بسلوفاكيا، لقي الصحفي جان كوتشياك المتخصص في الصحافة الاستقصائية، مصرعه هو ورفيقته، وألقت السلطات في سبتمبر/أيلول القبض على أربعة مشتبه بتورطهم في قتله، وسط حديث عن أن الواقعة يقف خلفها رجل أعمال مرتبط بمافيا نشطة في سلوفاكيا.
وترجّح السلطات أن مصرع كوتشياك جاء على خلفية تحقيقه بشأن قضية فساد مفترضة تواطأ فيها مسؤولون كبار في الحكومة مع المافيا الإيطالية.
وقبل عام مما وقع لخاشقجي وفيكتوريا، اغتيلت المدونة المالطية البارزة دافني كاروانا غاليزيا -التي قادت تحقيق الفساد في فضيحة "وثائق بنما"- بانفجار سيارة في العاصمة فاليتا.
وكانت دافني قد تقدمت قبل أسبوعين من مقتلها شكوى إلى الشرطة المحلية بمالطا، إثر تلقيها تهديدات من مجهولين بتصفيتها. ووجهت دافني اتهامات إلى أعضاء بحكومة رئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات إلى جانب زوجته، بالتورط في قضايا فساد ووجود اسم الزوجة ضمن فضائح "وثائق بنما".
وقد نفى رئيس الوزراء دائما تلك التهم وأكد براءة زوجته منها، وتعهد بتقديم استقالته إذا ظهرت أدلة تثبت تلك الاتهامات. لكن مرّ عام كامل على مقتل دافني، ولم يظهر أي تطور جديد في قضتيها.
وفي أواخر مايو/أيار من العام الجاري، لقي الإعلامي المكسيكي هكتور غونزاليز أنطونيو مصرعه في منطقة تاموليباس على الحدود مع الولايات المتحدة، وهي المنطقة المشهورة بأنها من معاقل شبكات تهريب المخدرات.
هكتور، الأب لولدين الذي بلغ عقده الرابع ووُجد جسده في أحد الممرات المحلية الضيقة مهشما بالهراوات، كان يركز في عمله على تغطية موجات العنف التي ضربت المكسيك بمنطقة تاموليباس، نتيجة لتجارة المخدرات.
وقبله بنحو عام، لقي مواطنه خافيير فالديز كارديناس مصرعه في الظروف نفسها، ونتيجة لحروب مافيا وكارتيلات المخدرات ضد الصحفيين التي لا تنتهي أبدا.
ولم ينس الرأي العام العربي بعد قصة الإعلاميين اللبنانيين البارزين سمير قصير وجبران تويني عام 2005، إذ اغتيل الأول يوم 2 يونيو/حزيران 2005 بتفجير قنبلة تحت مقعد سيارته وسط بيروت، فيما اغتيل الثاني يوم الاثنين 12 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه في اعتداء بسيارة مفخخة في ضاحية المكلس شرق بيروت.
ووجهت أصابع الاتهام إلى نظام بشار الأسد، لكون الرجلين من مناهضي سيطرة دمشق على الواقع السياسي في لبنان.
قتل واعتقالات
وبمقتل فيكتوريا مارينوفا، وصل عدد الصحفيين القتلى في 2018 إلى 57، من دون احتساب السجناء والمختفين مثل جمال خاشقجي.
وخلال العام الماضي، وصل عدد الصحفيين القتلى إلى 65 شخصا على الأقل، لقوا مصرعهم خلال تأدية عملهم.
ولم ينجُ حتى المواطن الصحفي العادي من حملة القتل والاعتقال، حيث قتل عشرة منهم في عام 2018، وسجن منهم 142 حتى الآن، وذلك بحسب إحصاءات منظمة "مراسلون بلا حدود".
وفي السعودية وحدها، تؤكد "مراسلون بلا حدود" أنه ألقي القبض على أكثر من 15 صحفيا ومدونا منذ سبتمبر/أيلول 2017، فيما يقبع ما بين 25 و30 من الصحفيين والمدونين في سجون المملكة.
وفي المغرب، يُعتقل الصحفي توفيق بوعشرين مؤسس صحيفة "أخبار اليوم المغربية" ومواقع إخبارية على الإنترنت والتواصل الاجتماعي، وذلك بتهم بينها الاغتصاب والاتجار في البشر، في حين ينفي هو تلك التهم ويؤكد أن اعتقاله تم لأسباب سياسية، لكون السياسة التحريرية لمؤسسته الإعلامية لا تتماشى مع خط الدولة، ولطالما اشتكوا من مقالاته وتناوله للأخبار المحلية الحساسة.
القوانين الدولية والمحلية كلها تنص على حماية حرية التعبير، وتدعو لتمكين الصحفي من أداء مهامه، لكن ما يجري على الأرض شيء آخر. فإذا اخترت أن تكون صحفيا، ومتخصصا في صحافة التحقيق تحديدا، فاحمل قلما بيمناك وكفنا بيسراك.