[ لاكنر هي باحثة عاشت في اليمن لفترة طويلة ]
أكدت الباحثة والكاتبة المتخصصة في الشأن اليمني هيلين لاكنر في كتاب "اليمن في أزمة" ان النظام الانتقالي الذي خططت له "اتفاقية التعاون الخليجي" والذي تسلّم السلطة في اليمن بين عامي 2012 و2014 لم يفشل فقط بسبب عدم اعتماده الحاكمية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة، بل لأنه لو نجح، فانه كان سيشكل تحدياً للأنظمة "الأوتوقراطية" السلطوية المنتشرة في البلدان المحيطة باليمن والتي لا تعتمد الحرية والديمقراطية في أنظمتها.
وقالت لاكنر، صاحبة الكتب العديدة البارزة حول اليمن، إن المجموعة الدولية كان موقفها سلبياً متفرجاً على ما يحدث في اليمن من صراعات داخلية وتدخلات إقليمية لأن الفوضى السياسية والصراعات الدموية العسكرية في البلد تفيد مصلحة شركات بيع الأسلحة الدولية والشركات المتعددة الجنسية التي تفضّل ان تهيمن على خيرات البلد الطبيعية بدلاً من السلطة المركزية اليمنية.
واعتبرت ان تدويل الأزمة اليمنية الذي تم عام 2015 وتدخل دول خليجية عن طريق إنشاء تحالف عسكري ـ سياسي ضربَ المعارضين عسكرياً وفشل في إعادة السلطة إلى الحكومة اليمنية الانتقالية وأدى إلى حدوث أزمة سياسية وإنسانية هما أشبه بكارثة وما زالت هذه الأزمة مستمرة حتى الساعة من دون معالجة فعالة.
وقد ساهم هذا التوجه العسكري القصير النظر لحل المشكلة، حسب قولها، في اتساع وتعزيز دور المنظمات والميليشيات الجهادية المتطرفة، أكان ذلك لدى المجموعات السنية كمنظمتي "القاعدة في الجزيرة العربية" وتنظيم "الدولة الإسلامية" أو عبر منظمات أصولية ادعت انها تُحيي المذهب الشيعي الزيدي تحت المظلة الحوثية. وعملت هاتان الجهتان في رأيها على تقليص الحريات المدنية عموما، وحقوق المرأة خصوصا، ونكّلت بمعارضيهما السياسيين في كل من المناطق التي سيطرتا عليها (ص 190).
وأوضحت لاكنر أن أكثرية المقاتلين في الجبهتين الجهاديتين من الفقراء الذين يسعون للحصول على قوتهم للعيش وقليلون منهم يؤمنون بالأيديولوجية التي تدّعي قياداتهم أنهم ينتمون إليها عقائدياً.
وهذا الوضع، في رأي المؤلفة، أدى إلى انقسام اليمن إلى دويلات طائفية وإثنية ومناطقية، كانت موجودة سابقا ولكنها ازدادت وأصبحت أكثر خطورة في السنوات الأخيرة. فبعد أن كان الصراع الأساسي بين توجهات أهل الجنوب مقابل أهل شمالها، انقسم الجنوبيون على بعضهم والشماليون تحولوا إلى مجموعات متقاتلة وارتبطت المجموعات الجديدة في المنطقتين بجهات خارجية، ما يعني ان الصراع في اليمن الذي يبدو في ظاهرة إثنياً، دينياً تحول إلى صراع سياسي تقوده جهات خارجية لها مصلحة في استمرار الفوضى في البلد.
وإذا انتهت هذه الحرب في المستقبل، تقول الكاتبة، من الصعب ان يعود اليمن إلى قالب جمهورية اليمن الموحدة التي تأسست في عام 1990 أو إلى جمهوريتي اليمن الشمالي والجنوبي اللتين تواجدتا في ثمانينيات القرن الماضي أو حتى إلى الدولة اليمنية الفدرالية التي طرحتها مسودة دستور 2015 والتي تقسم البلاد إلى ست ولايات (محافظات) فدرالية. الشأن الإيجابي الوحيد الذي يمكن ان تحققه نهاية المواجهات العسكرية هو وقف التدخل العسكري الإقليمي والدولي في شؤون اليمن وتخلّص الشعب من جهنم التي يعيش فيها.
وبالنسبة إلى الجهة التي ستستفيد من إعادة إعمار اليمن المنكوب حاليا (إذا حدث) فستكون الشركات الدولية المتعددة الجنسية والمتعهدون الكبار الذين سيجمعون مليارات الدولارات في هذه العمليات وليس الشركات اليمنية والشعب اليمني، ولكن وللأسف، تقول المؤلفة، لا يبدو ان أي جهة داخلية أو خارجية في الصراع اليمني تسعى إلى إقامة سلام أو أجواء سلمية وخصوصاً ان ما يسمى الحكومة اليمنية الشرعية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي تسيطر على جزء قليل من الأراضي اليمنية وتواجه صعوبات سياسية واقتصادية وميدانية كبيرة.
وتندد الكاتبة بالسياسات الإقليمية والدولية التي اعتمدت منظاراً ضيقاً يفسر حرب اليمن كونها صراعاً بين الدول الخليجية، من جهة، وإيران، من جهة أخرى، معتبرة أن بعض القادة في الدول الخليجية يفضلون استمرارها من أجل الحصول على مكاسب سياسية محدودة وليس من أجل مصلحة دول المنطقة عموما أو دولهم خصوصا أو لمصلحة شعب اليمن (وترى أن تضخيم دور إيران في دعم الحركة الحوثية يندرج في سياق تحريض الأكثرية العربية الخليجية السنّية للانخراط في هذه الحرب ضد "الحوثيين الشيعيين المدعومين من إيران".
وهذه السياسة، حسب المؤلفة، لم تشكل خطأ سياسياً فقط بل أدت إلى أخطاء استراتيجية عسكرية كبيرة، إذ فشلت في تقدير القوة العسكرية التي يتمتع بها تحالف الحوثيين مع الجيش اليمني المدرب تدريباً قوياً والذي كان يأتمر بأوامر الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. كما ان هذه السياسة الخاطئة اعتبرت ان التكنولوجيا العسكرية المتطورة وحدها ستؤمّن الانتصار السريع على الحوثيين وجيش صالح من دون ضرورة استخدام الجيوش الميدانية. ولعل الفصل الخامس من الكتاب بعنوان "حركة الحوثيين: من اللا مكان إلى قلب المسرح". هو أحد أهم فصوله، إذ ان المؤلفة تشير في مطلعه إلى أن الحركة الحوثية كانت شبه غير موجودة على الساحة لدى تأسيس الجمهورية اليمنية الموحدة عام 1990.
وتزيد في هذا المجال أن الجانب الأيديولوجي في هذه الحركة كان محاولة مواجهة عدم تهميش الزيديين في النظام اليمني بعدما جرت محاولة لتهميشهم لدى مواجهتهم العسكرية مع القوى المؤيدة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وحليفه في اليمن المشير عبد الله السلال في ستينيات القرن الماضي.
في رأي لاكنر، ان القوى المؤيدة للرئيس الراحل علي عبد الله صالح ولحزب الإصلاح وللحوثيين تأتي معظمها من شمال البلاد.
وكانت الخطط التكتيكية السياسية التي اعتمدها صالح تشتمل تقوية الحوثيين عندما يريد إضعاف حزب الإصلاح وفِعل عكس ذلك عندما يريد إضعاف الحوثيين. وقد نجح عبر هذه السياسة في دعم نفسه على رأس السلطة. وعندما اضطر إلى التخلي عن السلطة لمصلحة الحكومة الانتقالية، تحالف صالح مع الحوثيين ضد هذه الحكومة منذ عام 2012. وبالتالي، تصاعد دور الحوثيين وتركيز القوى العالمية في اتجاههم منذ تلك الفترة وأصبحوا حالياً يحتلون دورا أساسيا في الصراع اليمني وجزءاً رئيسياً من أي حلٍ مطروح عليه أن يأخذهم في الاعتبار (ص 147).
وينتشر الحوثيون في محافظة صعدة، التي هي معقل الشيعة الزيديين الذين (حسب المؤلفة) يختلفون بشكل قليل في معتقداتهم عن السنّة الشافعيين الذين يشكلون أكثرية أهل السنّة في اليمن، وبالتالي فالخلاف في رأيها ليس سنياً ـ شيعياً عقائدياً كما تصوره وسائل الإعلام العالمية، فالأمر الأيديولوجي الديني الأساسي لدى الزيديين هو أن السادة الشرفاء المنتسبين إلى سلالة النبي محمد (صلعم) هم الأحق في تولي السلطة السياسية والدينية في العالم الإسلامي. وهذا أمر قد لا يناسب بعض الجهات القيادية في المنطقة سابقاً وحالياً.
وحسب لاكنر، فإن التأييد الأكبر للحوثيين في شمالي اليمن يأتي من القبائل والمجموعات التي دعمت الإمام البدر في صراعه مع حكومة السلال القومية العربية الناصرية الجمهورية في ستينيات القرن الماضي (ص 148). وبالتالي، فالحوثيون غير مرحب بهم في مناطق يمنية تقطنها مجموعات سنية (على اختلاف توجهاتها) وخصوصاً في مناطق قبلية تملك روابط عائلية ومصالح مع الدول الخليجية المجاورة.
وتشدد المؤلفة على ان مصطلح "حوثي" لا يعني بالضرورة الأمر نفسه كمصطلح "زيدي" إذ يتواجد عدد من الزيديين الذين لا يؤيدون الحوثيين. ولكن حركة الحوثيين عززت موقعها العسكري الميداني بعد مشاركتها في ست حروب قتل فيها الكثيرون وهُجر بنتيجتها الآلاف بين عامي 2004 و2010.
اذن، فبرأي الكاتبة ان الحركة الحوثية سياسية تقودها مجموعة من "السادة" المنتمين إلى السلالة الشريفة وتدعمها مجموعة من القبائل (ص 149 ـ 150).
وتؤكد لاكنر وجود خطأ يرتكبه الذين يضعون الحركة الحوثية والحركات الجهادية الأصولية السنّية في سلة واحدة، فمع ان الأصولية متواجدة في الحركتين فإنهما يكنان خصومة كبيرة لبعضهما البعض.
الحروب الست التي شارك فيها الحوثيون في اليمن وأدت إلى بروز دورهم ووقعت بين عامي 2004 و2010 كانت في معظمها مواجهات حوثية مع الرئيس علي عبد الله صالح. فخلال مطلع الألفية الثانية (خصوصا العقد الأول منها) كان صالح يحاول تصوير من سماهم: "عملاء لإيران". وفعل صالح ذلك لتأمين استمرار المساعدة الأمريكية والخليجية لنظامه. وكان صالح قد أظهر تعاطفه مع أمريكا إثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على واشنطن ونيويورك وحظي بمثل هذه المساعدة المادية آنذاك.
واتهم صالح الحوثيين بأنهم يتسلمون الأسلحة والأموال من إيران قبل ان يتحالف معهم في عام 2012 علماً انه وصفهم في مرحلة ما بالإرهابيين والمتطرفين والعملاء.
وقد استاءت الإدارة الامريكية (حسب المؤلفة) لدى إدراكها ان المساعدات التي أرسلتها إلى صالح لمواجهة إرهاب "القاعدة وأخواتها" في المنطقة كان يستخدمها لمواجهة الحوثيين (ص 155).
غير انه بعد تحالف صالح مع الحوثيين بدلت أمريكا وحلفاؤها تحفظهما حول وجهة مساعداتهم العسكرية والمادية وحول هوية خصومهما في المنطقة واقتنعتا بوجهة نظر الحكومة الانتقالية اليمنية بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي بأن تحالف الحوثيين وعلي عبدالله صالح يتسلم الأسلحة والأموال ويحظى بالتدريب من إيران (ص 155).
وتذكر المؤلفة ان الحوثيين كانوا قد شاركوا في التظاهرات ضد نظام الرئيس علي عبدالله صالح عام 2011 قبل التحالف والتعاون معه لاحقاً مما يؤكد تعقيد التحالفات في الأزمة اليمنية وضرورة عدم تبسيط التحليلات في هذه القضية الخطيرة التي أدت وتؤدي إلى عشرات آلاف القتلى والجرحى والمجاعة والافتقاد إلى المياه وانهيار بلد كان يمكن ان يشكل نموذجاً لكثير من البلدان المجاورة له في تاريخه وثقافته والتزام شعبه القضايا العربية والإسلامية المحقة.
لاكنر كتبت كتابها قبل مقتل علي عبدالله صالح، ولكن ما ورد فيه يوضح العوامل والتبدلات والتدخلات الخارجية التي أدت إلى هذه النتيجة، بالإضافة إلى عدم فاعلية الوساطات الدولية الأممية والإقليمية حتى الساعة.
ويبقى السؤال التالي: "مِن دون علي عبدالله صالح هل كان في قدرة الحوثيين الوصول للتوسع والسيطرة على المناطق التي يسيطرون عليها الآن؟
حسب المؤلفة أفضل الحلول تكمن في وقف هذه الحرب واعتماد الخطط التنموية وإعادة الحياة الطبيعية إلى هذا البلد الذي لا يستحق ما جرى ويجري فيه.