لم يكن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح مجرد رقم سياسي أو قبلي أو عسكري في اليمن، فقد اكتسب طوال مدة حكمه الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود الكثير من المناعة ضد التغيير، لدرجة أن كثيراً من أنصاره ومؤيديه لا يعتقدون أن شخصاً غيره قادر على حكم اليمن.
ربما لهذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة لا يزال المخلوع صالح يمتلك الكثير من عوامل التخريب والتدمير ليمن دخل في حرب أهلية لا يعلم إلا الله كيف ستكون نهايتها، وإصراره على البقاء في البلد رغم المناشدات الكثيرة لخروجه وترك القوى السياسية تقرر مصير البلد، يؤكد رغبة الرجل التدميرية تحت غطاء الثأر ممن كانوا سبباً في إخراجه من السلطة بعد ثورة فبراير/ شباط من العام 2011.
بعد أعوام من الثورة وبضمانات لم يحلم بها أي رئيس دولة من خلال حصانة قضائية كاملة، عاد المخلوع ليعيد اللعب على آلام وجراح البلد المدمر، والذي كان السبب الرئيسي في تدميره هو صالح نفسه، ولعل الأسئلة التي تتردد اليوم هو ما إذا كان صالح قد تحول فعلاً إلى معول هدم بعد أن خرج من السلطة مرفوع الرأس، وحان الوقت ليفسح المجال أمام القوى السياسية، ومن ضمنها الحزب الذي يترأسه، وهو حزب المؤتمر الشعبي العام، أم أن خروجه من اليمن سيكون ذا كلفة كبيرة؟
مراوغات مستمرة
عندما اندلعت ثورة فبراير/ شباط من العام 2011، تدخلت دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لإيجاد مخرج سلمي للرئيس المخلوع، كان حينها لا يزال يناور على كيفية الخروج وطبيعة الضمانات التي ستساعده على عدم محاكمته، وهي الضمانات التي صاغها بنفسه بموجب تفويض من قبل الأحزاب السياسية لمنحه اطمئناناً من أن الثورة ليست لديها نية لتصفية حسابات مع أحد بمن فيهم صالح نفسه، الذي يعد المسؤول الأول عن الكوارث التي لحقت بالبلد منذ تسلمه الحكم العام 1978 وحتى يوم خروجه من السلطة.
كان الاعتقاد لدى العديد من القوى السياسية أن منح صالح حصانة قضائية من الملاحقات والمساءلات عن نكبات تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود كفيلة بأن يراجع حساباته، خاصة أن الحصانة لم تمنح له فقط، بل منحت لكافة الأشخاص الذين عملوا معه طوال مدة حكمه، بمن فيهم أقرباؤه وأنجاله وأبناء إخوته، لكن الرجل اعتبر أن الحصانة القضائية وعدم الملاحقة دليل على ذكاء ولعبة سياسية وأراد استثمارها ليعود ليحكم من جديد.
كان ذلك واضحاً منذ عودته من المملكة العربية السعودية على إثر تلقيه العلاج في مستشفياتها بعد محاولة اغتياله في الثالث من شهر يونيو/ حزيران من العام 2011، فقد ظل الرجل يراوغ في مسألة بقائه السياسي ممسكاً بواحدة من أهم مفاصل الحكم وهي الحكومة التي تم تشكيلها بموجب المبادرة الخليجية مناصفة بين حزبه (نصف المقاعد) وبقية القوى السياسية.
لم يكن لدى الرجل أي رغبة حقيقية في تطبيق نصوص المبادرة الخليجية، والتي عابها عدم تحديد المستقبل السياسي لصالح، في مقابل الحصانة القضائية، فقد كانت المبادرة فضفاضة وركزت على قضية تسليم السلطة ولم تمنعه من ممارسة العمل السياسي، أي أنها ساعدته في الخروج من الباب والعودة من النافذة.
كان صالح يدرك أن تركه للمؤتمر الشعبي العام يعني خروجه نهائياً من العملية السياسية، ولذلك أبقى على منصبه رئيساً للحزب رغم خروجه من رئاسة البلاد، مع أن النظام الداخلي للمؤتمر ينص على أن رئاسة المؤتمر مرتبطة برئاسة الدولة، وهي النقطة التي ثبتها صالح أثناء حكمه للبلاد، وكان يعني ذلك أن تحال رئاسة المؤتمر إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي تم اختياره ليكون رئيساً للبلاد بموافقة صالح نفسه.
كانت هذه الثغرة الأكبر والأهم في المبادرة الخليجية، وقد استغلها صالح أفضل استغلال فكان هو الذي يدير مواقف حزب المؤتمر في الحكومة، وأعضاء الحكومة يعودون إليه في كل صغيرة وكبيرة، وعندما كانت تثار قضايا خلافية في أوساط الحكومة كان الجميع يعرف أن وراء هذه الخلافات صالح نفسه.
خلال بقائه في اليمن كان صالح يتصرف كرئيس دولة وليس فقط رئيس نصف حكومة، وهو ما أثار حفيظة الرئيس هادي الذي حاول بمختلف الوسائل والطرق الحصول على دعم أعضاء الأمانة العامة لحزب المؤتمر لتولي رئاسة الحزب، إلا أنه أخفق في ذلك بسبب ارتباط العديد من هؤلاء بمصالح متشعبة بصالح، إضافة إلى دخول هادي في صراع مع أطراف سياسية أخرى من بينها جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا يريدون التهام الدولة بأكملها، ومن ثم جماعة الحوثي التي كانت تحشد من أجل الانقضاض على السلطة، ساعدها في ذلك الرئيس المخلوع نفسه.
من هنا استمرت مراوغات صالح تفعل فعلها في الحياة السياسة وعطلت قدرات الرئيس هادي في إعادة تطبيع الأوضاع في البلاد، وظن صالح أن العودة إلى السلطة صارت قريبة، وقد رفض مرات عدة أن يتم ترشيح هادي لدورة انتخابية قادمة، وحث حزب المؤتمر على إعلان موقف رسمي يؤكد أن خيار الاتفاق على هادي رئيساً من عدمه في يد قواعد الحزب وليس في أيدي أشخاص معينين فيه.
وفي الحقيقة فإن صالح كان يعد نفسه للعودة إلى السلطة من جديد مستغلاً حالات الإرباك التي سادت مرحلة ما بعد خروجه من السلطة؛ فقد كان الرجل عبر المنظومة السياسية والعسكرية التي بناها طوال السنوات الماضية يمتلك الكثير من عوامل التعطيل، بل والتدمير، وهو ما هو حاصل اليوم، إذ إنه صار واحداً من صناع الأزمات.
مطالبات متزايدة للخروج
في الأشهر التي تلت استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء، كان الجميع يدرك أن صالح يعد واحداً من الشخصيات التي أثرت في الوصول إلى هذا المآل، فقد جند صالح أنصاره من رجال القبائل عبر التحشيد المالي وعبر التظاهرات وسخر المعسكرات التابعة لقوات الحرس الجمهوري لتكون أداة في ايدي جماعة الحوثي، وبهذه المساعدات كان الحوثيون يطرقون أبواب صنعاء في أغسطس/ آب عبر تظاهرات احتجاجاً على الجرعة السعرية للمشتقات النفطية التي اتخذتها الحكومة، قبل أن ينقضوا على العاصمة صنعاء وما تبع ذلك من حصار للرئيس هادي وفرض أجندة خاصة بهم.
بعد سيطرة الحوثيين وصالح على العاصمة صنعاء كان بقاء هادي فيها غير ممكن فتمكن من الفرار، إلا أن الجانبين شكلا تحالفاً قوياً دخلا بموجبه في مواجهة مباشرة مع اليمنيين كافة.
وفي خضم الأشهر التي تلت استيلاء الحوثيين على السلطة كانت هناك مطالب ومبادرات من أطراف مختلفة لتأمين خروج آمن لصالح، إلا أن الرجل وحزبه ظلا يرفضان هذه المبادرات لأسباب كثيرة أهمها أنهما لا يزالان يعتقدان أن صالح قادر على تعطيل ماكينة الحوثيين بعد انتهاء الحرب لعدم خبرتهم في الحكم من جهة ولظهورهم بمظهر العصابات من جهة ثانية وهو ما يسهل الانقضاض عليهم والتخلص منهم بعد انتهاء الحرب.
وكانت جملة المبادرات الداعية إلى خروج صالح من اليمن تأتي من باب الحرص على استقرار الوضع في اليمن وإفساح المجال لحل سياسي للأزمة القائمة، لأنها تدرك أن صالح يعد مشكلة وليس حلاً للأزمة في البلاد، وكانت آخر هذه المبادرات تلك التي أعلنها وزير الدولة للشؤون الخارجية بدولة الإمارات أنور قرقاش، والتي طالب القوى الدولية بالضغط نحو خروج صالح من اليمن دعما للقاء جنيف، مؤكدا أن غيابه سيحرّر فريق المؤتمر التفاوضي ويزيل أحد أهم عقبات الحل السياسي.
واعتبر قرقاش في تغريدات له على حسابه بتويتر أن غياب صالح عن الساحة بشكل جذري داخل اليمن سيسهم في نجاح الحل السياسي باليمن ومؤتمر جنيف القادم، وكذا جهود المبعوث الأممي، مؤكداً أن ذلك سيتطلب ضغوطا دولية تدفع باتجاه خروج صالح من اليمن، ورأى أن تجربة بقاء صالح في اليمن وبشّار الأسد في سوريا مؤشر وعبرة حول دور وإرث الماضي في تعقُد آفاق الحل السياسي والذي يؤسس للمستقبل.
لكن السؤال هو ما إذا كان خروج صالح ما زال ممكناً، أم أن الخيارات بدأت تضيق أمامه؟
في المشهد العام لا تزال مسألة خروج صالح ممكنة نظراً للدور التخريبي الذي يقوم به الرجل في الأزمة القائمة اليوم، على الرغم من أن حزبه أعلن أنه يرفض فكرة خروج رئيسه من اليمن، وذلك يعود لقناعة لدى قادة المؤتمر أن الحزب سيكون في طريقه للتفكك والزوال في حال تخلى صالح عن رئاسته، فحزب المؤتمر معروف أنه عبارة عن قيادات ورقية لا يستطيع التأثير في الحياة في غياب صالح، ناهيك أن قسماً كبيراً من قادة الحزب التحق بالرئيس هادي مؤخراً، وبدأوا بإعادة بناء مؤتمر بدون صالح.
مع ذلك فإن دولاً محدودة يمكنها قبول صالح لاجئاً فيها، ويمكن فهم التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية التي أكد فيها استعداد بلاده لاستقبال صالح، إذا كان ذلك سيساعد في حل الأزمة والحفاظ على ما تبقى من اليمن..
السؤال هو إن كان صالح سيقبل بالعروض والمبادرات الحريصة على يمن مستقر، أم أنه سيزيد من عناده اعتقاداً أن ذلك يزيد من حضوره في الساحة؟ من المؤكد أن صالح لم يعد له مكان في المشهد السياسي القادم في اليمن، وعليه أن يدرك أن قضية محاولته خلط الأوراق لم تعد تجدي نفعاً، ودول التحالف العربي لم تع بإمكانها إعطاء المزيد من الفرص بعد أن قام بعضّ اليد التي امتدت إليه لمساعدته لتجاوز مرحلة الخطر بفعل الإصابة الخطرة التي أصابته بالتفجير الذي استهدفه في جامع دار الرئاسة في الثالث من شهر يونيو/ حزيران من العام 2011، وقد حان الوقت ليختفي عن المشهد ويترك اليمنيين يقررون مصيرهم بأنفسهم.