[ الدكتور فيصل علي ]
"هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ وسائلي المنويَّ... لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي
شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي
والبابُ و الحُرَّاسُ والأجراسُ لي"..
محمود درويش
لم تعد تلك الأشياء وغيرها لك يا محمود فقد قالت الهاشمية السياسية أن لها الخمس من كل ما قلته أعلاه بالإضافة إلى الزيت و النيس و النفط و الكحل و الحناء و ما ترك الصدأ للحداد، و ما بعثرته الأيدي السمر في سمسرة النحاس.
ما الذي حصل حتى ضاعت البلاد؟ كيف عادت الإمامة وعاد عصر "حباب" الركب؟ والسؤال قديماً صاغه القاضي القائد الزبيري:
ماذا دهى قحطان في لحظاتهم
بؤس وفــي كلماتهـــم آلام.
جهل وأمراض وظلــــم فادح
و مخافـــة و مجاعــــة و (إمام ).
والناس بين مكبل في رجـــله قــيد
وفي فمه البليغ لجـــام.
لم تكن الدولة ذات أسس حقيقية، فقد قُضي مبكراً على أهداف ثورة 26 سبتمبر في السبعينات من القرن الماضي عبر تطبيق وهم المصالحة بين الجمهوريين والملكيين، فخضعت الزيدية القبلية للهاشمية السياسية عبر القوانين التي وضعتها الطبقة الملكية المتعلمة لصالحها وصالح أفرادها كقانون الخدمة المدنية الذي صنع تفرقة اجتماعية من خلال المرتبات و الوظائف، و لم يساوي المؤهلات من حيث الراتب و المخصصات في مختلف المؤسسات فتم التلاعب بحسب واضع القانون، و هذا مجرد مثال و لا وقت للحصر.
العدالة غابت شمالاً وجنوباً، فبانت سوءة الدولة وتكونت الطبقية مرة أخرى تحت مسميات قاوق القاضي والبدلة السفري بتوع ماركس.
كما أن ضعف الولاء الشعبي للدولة اليمنية قبل وبعد الوحدة ساهم في انتهائها على يد الانقلابيين، من الهاشميين الغزاة، الذين مثلوا إضافة نوعية للمشاريع الصغيرة التي كشرت عن أنيابها في مواجهة اليمن الاتحادي ومخرجات مؤتمر الحوار.
الدولة كانت جلاداً في الجنوب وشيخاً قبلياً في الشمال، مع فارق أن أحدهما كان أثناء الحرب الباردة شرقياً والأخر غربياً وليس لهما علاقة فكرية أو ثقافية بشرق أو بغرب، مجرد مسميات وحبر على ورق، مما سهل اصطيادهما كغبيين بحجر واحد بعد الواحدة.
إضافة إلى ما سبق فإن المحيط الإقليمي لليمن كانت مواقفه أقرب للسلبية من قضايا التنمية الحقيقية في اليمن، ويكفي صمت بعض دوله وممالاة الأخرى عند الانقلاب على الدولة.
النخب اليمنية سلطة ومعارضة أغرقت البلد في الجدل العقيم، أيهما أفضل الإسلام أم العلمانية؟ الإسلام المصدر الأساسي أو مصدر جميع التشريعات؟ كيف سيحكم الإسلام في قوانين المرور؟ إذا اصطدمت سيارتان فمن هم أهل الذكر الذين يقع علينا سؤالهم؟ وكثير من هذه السفسطة المؤدلجة والتي لا تجيب عن تطلعات ومتطلبات واحتياجات المجتمع اليمني بتنوعاته البيئية والثقافية.
و لنا مع السفسطة تاريخ مخزي فقبل غزو المغول كان أبرز الفقهاء مشغولين بقضية (إذا نبتت للمرأة لحية)، قال النووي في شرح مسلم (إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها و كذا لو نبت لها شارب أو عنفقة) و نقله الحافظ في الفتح و صاحب المعني وقال صاحب مواهب الجليل بوجوب حلق المرأة للحيتها إذا نبتت.. والقول الثاني:
قال الطبري رحمه الله: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص إلتماس الحسن لا لزوج و لا لغيره كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل مابينهما توهم البلج أو عكسه و من تكون لها سن زائدة فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف فكل ذلك داخل تحت هذا النهي.
على كل حال لا وقت لديَّ وإلا كنت بحثت لكم عن معنى "عنفقة" و أين تنبت، المهم في الأمر أن المغول جاءوا وحلقوا للفقهاء والمتنطعين رؤوسهم كما وصف ذلك صديقي الدكتور محمد المهدلي في منشور له، و يضيف في نفس المنشور "أذكر كنا قبل اجتياح الحوثيين صنعاء" في جامعة أهلية -يقصد جامعة الإيمان- في شغل فاكهون حول مسألة: هل دخول المرأة المجالس التشريعية يعد ولاية عامة أو لا، وظلت شغل مشايخنا الشاغل لبضع سنين، وصارت مسألة عقدية و مسألة ولاء و براء، و مسألة فسطاطين" حتى اجتاحت قطعان الهمج الحوثيين صنعاء واليمن من خلفها.
الشاهد في كل ما سبق أن نخبنا الدينية و السياسية وفرت مبررات التنويم للشعب اليمني بينما كانت فلول الهاشمية السياسية تنحت الصخر في الشمال الزيدي و في حضرموت الحبايب لوصول السلالة إلى الحكم و إعادة براميل التشطير بحسب خريطة المستعمر الذي قسم اليمن بين ولدي فاطمة .. الشمال للحَسنيين و الجنوب للحُسنيين، توالت الانتهازية السياسية في فرض مخلفاتها الأيديولوجية على الواقع السياسي و الإعلامي منذ سقوط دماج حتى بعد سقوط صنعاء، لقد كنا مؤهلين للسقوط الحتمي بسبب غباء نخبنا بالإضافة إلى الأسباب أعلاه وغيرها، فمتى تزول الغشاوة و نعود لبناء جيل النصر و بناء الدولة؟
أصدقكم القول مازال هذا الأمل بعيداً مادامت نخبنا إياها تتنابز بالألقاب و تجري تموضعها بحسب حساباتها القديمة و كأن شيئاً لم يكن، حتى أننا ننشغل بالسفسطة و الهراء و العدوان الهاشمي السياسي مازل يشل حركة البلد برمتها و انقلابه مازال جاثماً على صدر عاصمة سام بن نوح.
لا خُمس في الإسلام و لا في الشريعة و لا في القانون، فقط هي ضوضاء جدل أثارتها الهاشمية السياسية ليقع المغفلين في الجدل العقيم، و خرجوا من المولد أن الزنداني هو من أفتى، وتناسوا أن الربع والخمس و الكل و الكمل بأيدي العصابة التي سرقت اليمن و الدين و الله و الرسول و الإسلام و الهوية و الحضارة اليمنية، مازلنا نحتاج إلى المزيد من مراجعة الخطاب و الفكر و التراث و تنقية تاريخنا و فكرنا من الأوهام التي تساهم بسقوطنا، نحن بحاجة إلى استلهام تاريخ أمتنا اليمنية ففيه ما يعصمنا من التفرق و من الضياع و من ثناياه ستنطلق دولتنا اليمنية و سنملك المستقبل الذي يجب أن نحارب لأجله من اليوم و حتى لا نسقط غداً.