[ مليشيا الحوثي - أرشيفية ]
لم يكن فراق زوجها بسبب اختلاله عقليا، وتحملها أعباء تربية أبنائها الثلاثة، ومكابدتها شظف العيش، ومواجهتها ضائقة الحياة، محنتها الأكبر في حياتها، بل ما تسببه الحوثيون لها كان بمثابة قاصمة الظهر، وقتل الحياة السارية في جسدها.
(م . ع) امرأة تزوجت الشاب "يحي سعيد" ابن قريتها، وبدأت معه مشوار حياتها الزوجية، ورزقوا بثلاثة أولاد، أصيب بعدها الزوج بمرض نفسي، وأصبح مختل عقلياً، وساءت حياتها وضاقت ذرعاً مع أطفالها نتيجة تصرف زوجها المختل عقلياً، مما أدى إلى انفصالها عنه، وتحملت أعباء تربية أبنائها الثلاثة، كان أخوها يقوم بمساعدتها، بينما هي تعكف على تربيت أبنائها، والسعي للحصول على مايقتاتون به من لقمة عيش، من خلال أعمال الزراعة التي كانت تقوم بها كامرأة ريفية، تسكن أعالي المنحدرات الجبلية بمنطقة آنس بمحافظة ذمار، والتي لم تجد ما يُشبع بطون أطفالها سُواء ما تجلبه لهم من كدها في الحياة، ومساعدة فاعلي الخير.
كان صغارها بلسم جراحها، تضمهم إلى حُضنها كل مساء، تشتم رائحتهم بلهف، لتُخفف من آلامها، تذرف عيونها الدمعة، بسبب بؤسهم وتعثر حظهما في الحياة، فتمعن النظر إلى أطفالها مرة أخرى وهم يغطون بنوم عميق، على فُرش من الإسفنج مقطعة وشبه تالفة، وعلى أجسادهم بطانية سوداء تلف أجسادهم الناحلة، لكنها مع كل زفير وشهيق يصدر منهم، تشعر أن المستقبل لا زال يخفي لها مفاجأة، وأن ثمة حياة كريمة تنتظرهم، على شاطئ هذه المعاناة.
فما إن بلغت أعمارهم سن التعليم بادرت بإلحاقهم بالمدرسة، حرصا منها على تعليمهم، ليتفتح أمامهم المستقبل، ويحققوا مستقبلهم المنشود، ولحسن حظ القدر هذه المرة، أتى فاعل خير وقام بإلحاقهم بدار الأيتام بصنعاء، ليتم رعايتهم وتسهيل مسيرتهم التعليمية، وتصبح الأم المكلومة التي ركبت موجات المعاناة، وواجهت صفعات الحياة القاسية بكل عزيمة وإصرار في سبيل تربية أبنائها، على مسافة قريبة من تحقيق أحلامها، ومن اليوم الذي ترى فيه أبناءها رجالاً يرفعون عن كاهلها معاناة وآلام رافقتها طيلة السنوات الماضية.
ويعتبر "وسيم" الابن الأكبر لها يبلغ من العمر 16عاما، ورمزي يبلغ من العمر 13 عاما، أما فؤاد فهو أصغرهم ويبلغ عمره 11 عاما.
ثلاثة نجوم متلألئة يعكفون على التحصيل العلمي بدار الأيتام بصنعاء، ترافقهم دعوات والدتهم النابعة من شغاف قلبها، مودعة إياهم الله، وتحثهم على الجد والمثابرة في دراستهم، كانت تتلقى منهم مكالمات هاتفية بين الفينة والأخرى، توصي من خلالها ابنها الأكبر "وسيم" بالانتباه على إخوته الصغار، وتطلب منه عدم تأخره بالاتصال بها، فهي تنتظر اتصالهم وتشتاق لسماع أصواتهم بلهفة وشوق كبير.
وفي بداية العام الجديد 7981م ، تأخر الاتصال بها، قرابة الشهرين، مما ساور والدتهم القلق، وبدأت تنزعج من هذا الانقطاع، الذي لم يسبق له مثيل على الإطلاق، لتتفاجأ بعد كل هذا بخبر مقتل ابنها "وسيم" الابن الأكبر في جبهة نهم، حيث أخذه الحوثيون من دار الأيتام بصنعاء مع إخوته إلى الجبهة واستمر معهم هناك قرابة الشهر وقتل، خبر كان بمثابة صاعقة مهولة، جعل الأم المسكينة تجثو على ركبتيها، وتضع يديها على الأرض، وعيونها تذرف الدمع، وصوتها يجهش ببكاء مرير، يكاد تتقطع له القلوب، دخلت بعدها في غيبوبة، استمرت بها الغيبوبة لبضع دقائق، وكل من حولها ينظر إليها بذهول، غير مصدقين ما تسمعه آذانهم من خبر مقتل الطفل "وسيم"، ولا ما تراه أعينهم من فاجعة الأم بمقتل ولدها، فألسنتهم تتلعثم وكأنها احتشت حلوقهم، وأطرافهم كأنها غير قادرة على الحركة، فأخذوا الماء وصبوه على جسدها ، فعادت إلى وعيها.
فتحت عينيها لتنظر في الحاضرين بتمعن، ما الذي يدور حولها، لكن سرعان ما استحضرت خبر مقتل فلذت كبدها، فعادت إلى الغيبوبة مرة أخرى، فصبوا عليها الماء البارد مرة أخرى، وقدموا لها الإسعافات الأولية للصدمة، فعادت إلى وعيها، وهي خائرة القوى منهكة الجسد، مكسورة القلب، دموعها تذرف دون توقف، يصاحب الدموع صوت شاحب، وأصبحت تتخيل طفلها أمام عينيها، كيف تم نقله إلى الجبهة، كيف كان وضعه بين الذئاب البشرية الحوثية في رؤوس الجبال، كيف قتل؟!
تتخيل طفلها مضرجا بدمائه ملقي على صخرة.. الصخرة مخضبة بدمه، في وسط حلك الظلام وقساوة الجو ووعورة الأرض.
انتقلت الأم مع أخيها الذي كانت تسكن عنده إلى صنعاء، حسب طلب الحوثيين منهم، من أجل استلام الجثة، وهناك حصلت على ابنها الصغير ينتظر والدته وخاله بجوار ثلاجة الموتى، ليستلموا جثة أخيه الأكبر"وسيم" أما أخوه الأوسط "رمزي" فلم يسمح له الحوثيون بالعودة من الجبهة، ليرافق جثة أخية ويدفنه، ويلتقي بوالدته التي طال غيابه عنها.
لكن الأم وأخيها رفضوا يستلموا الجثة إلا بحضور "رمزي" وتسليم مستحقات "وسيم" فقال الحوثيون "رمزي" قطع على نفسه عهداً أنه لن يعود من الجبهة، إلا منتصرا وقاهرا للغزاة العملاء.
أما مستحقات "وسيم" فقد أوصى بها في سبيل الله، (وما عليك يا أم وسيم إلا أن تزغردي وتفرحي لنيل ابنك الشهادة في سبيل الله التي لطالما تمناها)، لكن الأم لا تؤمن بترهاتهم وخزعبلاتهم ورفضت مع أخيها استلام الجثة إلا بحضور "رمزي" وتسليم مستحقات "وسيم". ودخلوا مع الحوثيين في مشادات كلامية، فأطلق عليهم الحوثيون لقب "دواعش" وأتو بالطقم يريدون أن يلقوا عليهم القبض وإيداعهم السجن، ففروا هرباً وتركوا الجثة، فقام الحوثيون بأخذها ودفنها في إحدى مقابرهم بصنعاء، وعادت الأم مع ابنها الصغير تحضنه إلى صدرها، تُخضبه بدموعها، تتحسس جسده بيديها، وتشتم رائحته لعلها تجد رائحة إخوانه فيه، تعاتبه لماذا ذهبتم مع الحوثيين؟!
فيُجيبها بصوت كسير ومحزون يا أمي لقد أتوا إلينا وقالو نذهب معهم نحضر دورة وسيقوموا بتوظيفنا ونستلم معاشات شهرية، وبعد أن أكملنا الدورة نقلونا الجبهة مباشرة، ومنعونا أن نخرج منها، وبعد مقتل اخي "وسيم" رفضوا أن يأذنوا لـ "رمزي" أن يأتي معنا، وقالو يكفي أنا أذهب مع "الشهيد" وبعد الدفن أعود مباشرة إلى الجبهة.
إلى الجبهة.. "لكن يا أمي لن أعود إليهم، ولن أخرج من قريتنا أبدا، لأنهم إذا امسكوا بي سيعيدوني إلى هناك بالقوة".
كلاماٌ زاد من كاهل الأحزان والأوجاع المُثقلة بها الأم، فالابن الأكبر صار جثة هامدة، والأوسط لا تعلم عنه أي شيء بينما الأصغر يخاف أن يعثر عليه الحوثيون في أي مكان فيعيدونه إلى جبهات الموت، لقد تحطمت كل أحلامها، وانتهى كل شيء بالنسبة لها، فمعاناتها وآلامها في طيلة السنين الماضية، وحياتها التي كرستها في سبيل تربيتهم، قضى عليها الحوثيون في لحظات، وخطفوا منها أبناءها، وأصبحت وحيدة بدونهم.
ومر شهرا كاملاً وهي تقضي ليلها ونهارها، بكاء وحُزن على ابنها "وسيم" وقلق وشجون على ابنها "رمزي" الذي لا زال في جبهات الموت، لكن الأمل لا زال يراودها بأن ترى ابنها "رمزي" أمام عينيها يوماً من الأيام، وتضمه الى صدرها، وتتحسسه بيدها.
كانت تتسمع أصوات من في المنزل أو مَن على أطراف القرية يوميا لعلها تسمع أحدا يقول أتى "رمزي" ولكنها في صباح يوم الأحد الموافق 17 مارس 2018، سمعت صوت سيارة الإسعاف تهرع نحو قريتهم، وسمعت أصوات تقول "أتوا برمزي.. أتوا برمزي" فخرجت مسرعة تقول بصوت مُتلهف (رمزي من؟!) فقالوا لها "رمزي ابنك، استشهد في جبهة نهم قبل يومين، وها هو الآن على سيارة الإسعاف، لتجد قلبها يحرقه الحزن، وفؤادها يتقطع من فُراق أبنائها الذين سلبهم منها الحوثيون، ورموهم بجبهات الموت، ولم يعودوا منها إلا وهم قطع لحم متناثرة على صندوق خشبي تحمله سيارة الإسعاف.