[ لا تزال الغارات التي تستهدف المدنيين مستمرة - فرانس برس ]
بعد 3 سنوات من الحرب، تظهر المعادلة على الأرض أن تدخّل "التحالف العربي" بقيادة السعودية في اليمن، أدّى عملياً إلى تقوية الحوثيين وإضعاف شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، بعكس الأهداف المعلنة للتحالف، كما بدا أنّ ذلك تم وفقاً لسياسات متبعة وليس بمجرد الصدفة.
بدأ التحالف تدخله البري انطلاقاً من عدن والجنوب، وبعد السيطرة على عدن ولحج وأبين والضالع، توقّفت قواته المسنودة بالمقاومة المحلية فجأةً على تخوم تعز، أو بشكل أدقّ عند الحدود الشطرية بين الشمال والجنوب قبل الوحدة، وذلك أوحى مباشرة بوجود مشروع تفكيك لليمن على عكس الخطاب الضامن لوحدة البلد المقدم من التحالف، خصوصاً أن ذلك تزامن مع منع تقديم المعونات العسكرية والإنسانية لتعز من الجهة الجنوبية، وهو ما منح ورقة دعائية للحوثيين باستهداف اليمن الموحّد من قبل التحالف.
عزّز التحالف شكوك استهدافه لوحدة اليمن بقوة عندما نفّذ سياسات طرد جماعي لمواطني الشمال من المحافظات الجنوبية، وبشكل مهين، رافقته تصرفات غير إنسانية في عمليات الطرد، مع توجيه تهم لأبناء الشمال بأنهم موالون للحوثيين وصالح يومها، وتم ترويج هذه التهم بشكل منظّم.
وأتاح بدء التدخّل البري من الجنوب، وهو أبعد نقطة عن مركز هيمنة جماعة "أنصار الله" في شمال الشمال، الفرصة للحوثيين لتعزيز قبضتهم على مناطق الشمال، من دون أي قوة صدّ، ودفع بالآلاف من الشباب للانخراط في صفوفهم كمقاتلين لأنهم القوة المسيطرة على الأرض التي يمكنها مكافأتهم أو إنزال العقاب بهم، في ظلّ عدم وجود خيارات أخرى ولو متأخرة.
لم يتوقّف التحالف عند هذا الحد، بل إنه استهدف في قصفه الشهير للقاعة الكبرى أثناء مراسيم عزاء آل الرويشان في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أبرز قيادات الجيش والدولة التي بقيت في صنعاء من دون إعلان موقف واضح بالانحياز للحوثيين، كقائد قوات الاحتياط العام (الحرس الجمهوري سابقاً) علي الجائفي، الذي حال دون سيطرة الحوثيين على أقوى مكونات الجيش من ألوية الحرس الجمهوري حتى مقتله، وأمين العاصمة عبدالقادر هلال، السياسي الذي كان يمتلك علاقات قوية مع كل أطراف الصراع، وأحكم الحوثيون بعد مقتله فقط قبضتهم القوية على صنعاء وما تبقّى من المؤسسات السيادية للدولة الموجودة فيها.
ولم يقتصر قصف التحالف الكارثي على القاعة الكبرى، بل شمل الأحياء السكنية ومنازل المواطنين، من دون دلائل على سقوط أي قيادة حوثية كبيرة فيها، بل كسب بجدارة غضباً شعبياً عارماً لاستهانته بالمدنيين العزل واستهدافهم في منازلهم ومناسباتهم، كما حدث في ذمار بقصف قاعة عرس في منطقة سنبان أوقعت العشرات من المدنيين من دون وجود أي قيادة حوثية من ضمنهم، وما زالت الغارات التي تستهدف المدنيين مستمرة حتى الآن.
منح قصف التحالف الحوثيين ولاء بعض القيادات الكبيرة التي التزمت الحياد والصمت في الصراع، فيحيى الراعي رئيس مجلس النواب الذي يخوله الدستور اليمني حكم البلاد في حال فراغ منصب الرئيس ونائبه، التزم الصمت وغادر العاصمة إلى قريته في منطقة جهران بمحافظة ذمار، لكن طيران التحالف قصف منزله وقتل نجله وحرّاسه وكاد يقتل الراعي شخصياً، ليعود الرجل إلى صنعاء ويقف في صف الحوثيين، لأن صمته لم يحمه من قصف التحالف الأعمى.
وكان ذلك سبباً جوهرياً في تمكين الحوثيين من عقد جلسات البرلمان في صنعاء وعجز الشرعية عن ذلك حتى اليوم، فآخر محاولاتها لعقد جلسة برلمانية في عدن خلال فبراير/شباط الماضي، فشلت بسبب رفض "المجلس الانتقالي" المدعوم إماراتياً، لها، وكان أحد أهداف الاشتباكات التي خاضها المجلس ضد حكومة هادي نهاية يناير/كانون الثاني الماضي. ووسط كل ذلك، لم يبذل التحالف أي جهد لمنع العبث بالشرعية التي قال إنه أتى لإعادتها للسلطة في صنعاء، فوجدت نفسها وقد خسرت عدن.
خاض السعوديون حواراً منفرداً مع الحوثيين في ظهران الجنوب مطلع 2016، ثمّ في مسقط وغيرها من المدن، وهذا الأمر، مثلما أضعف موقف حزب "المؤتمر الشعبي" العام بصنعاء، أثار غضب الشرعية وتذمرها، فهي الحليف الذي أدخل التحالف إلى اليمن وتحمّل المسؤولية الأخلاقية والوطنية الناتجة عن ذلك، لكنها رأت أنّ التحالف يتواصل مباشرة مع خصومها من دون أن يكلّف نفسه إشعارها، وذلك أدّى ضمن معطيات أخرى، إلى إفشال مفاوضات السلام في الكويت وجنيف خلال 2016، وإلى إفشال مبادرة وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري في 2016، وتعزيز حالة عدم الثقة المستمرة بين التحالف والشرعية.
وعندما وصل الحوثيون إلى نقطة حرجة أمام موظفي الدولة، بعدما عجزوا عن دفع رواتبهم في أغسطس/آب عام 2016، أعلن هادي قراره الشهير بنقل البنك المركزي الواقع تحت سلطة الحوثيين من صنعاء إلى عدن، وكان ذلك القرار هدية ثمينة للحوثيين الذين ألقوا مسؤوليتهم عن دفع مرتبات 1.25 مليون موظف من المدنيين والعسكريين على شرعية هادي. اتخذت الأخيرة قراراً جعلها فجأة في ورطة غير مسبوقة، فهي لا تملك الإيرادات المالية الكافية لدفع مرتبات الموظفين، ولم يعد هناك احتياطي نقدي للبنك الذي قرّرت نقله إلى عدن من دون أية ضمانات بتفعيله من مقره الجديد، ووقف التحالف أيضاً متفرجاً من دون أي تدخل لإنقاذها.
كان اليمنيون يعتقدون أن التحالف سيتدخّل بشكل سريع وحاسم لإعادة الشرعية وتمكينها من ممارسة سلطاتها على الأرض، لكنه عمل على إطالة أمد الحرب حتى تحوّلت إلى عبء وكارثة بذاتها، ومشروع لديه أهداف أخرى تقتضي إطالة الحرب من دون أية نتائج إيجابية، ففقدت الشرعية بذلك جزءاً كبيراً من المتعاطفين معها.
وبدلاً من تعزيز جبهات القتال الداخلية، عمل التحالف على تقنين دعمه لها بحيث لا تتمكّن من الانتصار على الحوثيين ولا تقع في اليأس الكامل من المعركة، فدعمُها بالأسلحة كان وظيفياً، بحيث يكون لديها فرصة للبقاء على قيد المعركة والحياة، ولكنه لا يمنحها أية ميزة نوعية تسمح لها بتحقيق انتصار يحافظ على معنويات مقاتليها على أقل تقدير، إلى درجة أن أي تجاوز لمقاتلي الشرعية في خطوط الحرب المرسومة يؤدي إلى العقاب بـ"النيران الصديقة" التي تقصف مقاتلي الشرعية بدلاً عن مقاتلي الحوثيين، كما حدث في مأرب ونهم وتعز والجوف وميدي.
وبات السؤال الأبرز اليوم على لسان كل يمني هو: لماذا لم تعد الشرعية إلى عدن وغيرها من المناطق المحررة جنوباً أو مأرب شمالاً؟ لكنه لم يجد إجابة شافية، وهذا الأمر جعل موقف الشرعية في أضعف حالاته أمام المزاج الشعبي المتغيّر، فهادي لم يُسمح له بزيارة اليمن منذ فبراير 2017، وحكومته التي تغامر بين فترة وأخرى بالعودة إلى عدن، يتم تسليط أدوات التحالف لإعادتها إلى المنفى، كما حدث أخيراً بعد اشتباكات عدن أواخر يناير الماضي.
والسؤال هنا لا يعني بالضرورة إعادة الشرعية إلى الداخل على مستوى الرئيس والحكومة، ولكن لماذا لم تمارس الأجهزة التنفيذية وظيفتها على الأرض، الأمن والتعليم والصحة وغيرها من المسؤوليات المعروفة لأية سلطة؟ الأمر ببساطة غير مسموح به من قبل التحالف الذي لا يرغب بعودة الشرعية أو بسط سيطرتها على أراض أصبحت في قبضته هو، ولم تعد في قبضة الحوثيين، أي أنه أصبح الخصم الموضوعي للسلطة الشرعية التي يمكن لوجودها على الأرض أن يمنع التحالف والإمارات تحديداً، من السيطرة على موانئ وجزر وسواحل البلد من سقطرى حتى الخوخة، في وقت تمثّل هذه الجغرافيا هدفاً استراتيجياً لدولة الموانئ العابرة للقارات التي أرادت استلام فاتورة تدخلها قبل انتهاء المعركة.
لقد تمت فكفكة المؤسسات الرسمية للدولة اليمنية، وما تبقى منها يقع تحت قبضة الحوثيين. أمّا الشرعية، فلا سلطة لها أكثر من الخطابات في المناسبات الرسمية، وتحمّل أعباء خطايا التحالف. لم يسمح التحالف لحكومة هادي مثلاً بإعادة تصدير النفط أو الغاز لتوفير إيرادات تمنحها القدرة على دفع رواتب موظفيها، وما زالت قوى الجيش والأمن التابعة للشرعية تنتظر هبات التحالف الشهرية المنتظمة لدفع رواتب مقاتليها بكل مظاهر الفساد التي تعتريها.
كذلك، فإن حزب "الإصلاح"، أكبر قوة سياسية وقفت في صف هادي، أصبح خصماً للتحالف. وكلما عين هادي محافظاً من الإصلاح كمحافظ عدن الأسبق نائف البكري، يتم إجباره على إقالته وتعيين آخر مقرب من أبو ظبي كعيدروس الزبيدي، الذي تحوّل إلى رئيس للمجلس الانتقالي الجنوبي المناهض للشرعية والداعي لانفصال الجنوب. أما محافظ البيضاء نايف القيسي، فلم يتم الاكتفاء بإقالته، بل تمّت إضافته لقائمة الداعمين للإرهاب. وتكرر الأمر مع القيادي الإصلاحي في مقاومة الجوف حسن أبكر، والقيادي السلفي في مقاومة البيضاء عبد الوهاب الحميقاني، بما يعينه ذلك من إضعاف لمركز الشرعية، خصوصاً أمام المجتمع الدولي. وبغض النظر عن صحة المعطيات المبني عليها لوضعهم في تلك القائمة، فذلك عزز ادعاءات الحوثيين بأنهم يقاتلون "القاعدة" و"داعش".
لم تستطع الشرعية من منفاها مخاطبة المواطنين في الداخل، فقد تركت الساحة الإعلامية المحلية للحوثيين الذين أطلقوا عشرات الإذاعات المحلية لتشكيل الرأي العام الموالي لهم، بينما فشلت الشرعية في إطلاق إذاعة محلية واحدة في أمانة العاصمة صنعاء، واكتفت بقنوات فضائية متبدلة، ولا يستطيع المواطن متابعتها أصلاً لعدم توفر الكهرباء.
وبالإضافة إلى كل ذلك، يدعم التحالف أية شخصية يقوم هادي بإقالتها لتتحول إلى معارض له، وتنسى المعركة التي كانت شريكة فيها ضد الحوثيين، كما حدث مع عيدروس الزبيدي وهاني بن بريك ومحافظي عدد من محافظات الجنوب، في وقت تستمر قيادات شرعية فاسدة بشكل مخجل في مناصبها لتحقق فشلاً تلو فشل، وتنال غضب ولعنات المواطن، بدلاً من عقد الآمال عليها لإعادة الدولة المسلوبة.
وأخيراً، قدّمت السعودية الهدية الأثمن للحوثيين بقراراتها المتعلقة بفرض الرسوم الجديدة على المغتربين، وسعْوَدة عشرات المهن التي يعمل بها المغتربون اليمنيون تحديداً. وبينما كان متوقعاً أن تمنح هادي موقفاً مشرفاً أمام شعبه باستثناء المغتربين اليمنيين من الإجراءات الأخيرة، أصدر الرئيس -كإقرار بفشله في معالجة قضية المغتربين- قراراً بإعفاء المغتربين العائدين من السعودية من الرسوم الجمركية على أثاثهم وممتلكاتهم الشخصية. ولم يقم أحد بإبلاغ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أنه يرسم ملامح هزيمته وخسارة بلده في معركة مصيرية، ولا بإبلاغ هادي أن المغتربين العائدين بشكل جماعي مشمولون بالعفو من الجمارك بحكم القانون، وأن قراره الأخير لا يعني شيئاً مطلقاً، إلا إظهاره كرئيس يتصرف بدون دراية ولا حكمة.