[ الكاتب فيصل علي ]
"الفقر هو أسوأ أشكال العنف"
المهاتما غاندي
لابد لهذا الفقر أن يغادر هذه البلاد حتى نستطيع أن نموت بهدوء دون مراسم الدفن و بلا "عاشرة" و بلا عزاء يحضره الشامتون - قبل الأحباب - ليتأكدوا هل أننا فعلاً متنا بسلام، كيف يستطيع فقيرٌ أن يجمع كل أنواع الفقراء من حوله ليحاربوا الفقر ألد الأعداء؟! ما الروح الجديدة التي يجب أن يحملوها لتطغى على أرواحهم؟
ماذا فعل المهاتما غاندي حتى حرر الهند من أبغض احتلال ومن أسوأ حال مرت بها بلاده طيلة تاريخها العظيم؟ بعد أن وعد أمه بأنه سيحافظ على نصائحها الثلاث في إنجلترا أثناء دراسته للقانون وهي ; عدم أكل اللحوم وعدم شرب الكحول وعدم الذهاب إلى دور العاهرات. وعندما عاد كانت قد ذهبت أمه إلى بارئها تاركةً في نفسه جمال السلوك وصفاء الروح والتدين والهوية الهندوسية و حظته على الصوم. وعندما غادر للعمل محامياً في جنوب أفريقيا وجد احتقار البيض لقومه الهنود هناك فتحول من محامي قضية شخصية لأحد التجار الهنود إلى محامي قومه الهنود ضد العنصرية واستطاع أن يوصل صوته بالحق للدنيا، ولم يتراجع بفعل الإعتقال.
جنوب أفريقيا أهلّته للعودة لقضيته الكبرى في بلده الهند و قضيته هي "الهند" التي تقع تحت الإحتلال الإنجليزي و الذي ابتكر روح الطائفية و إختلاق المشكلات من الدين و الجغرافيا و التاريخ، فعل غاندي ما بوسعه لجمع أمته الهندية و ابتكر النضال بالسلم، و تشرّب إلى جانب الهندوسية مبادئ المسيحية و الإسلام معاً، ومزج بين دينه القومي و عقيدته الهندوسية و مبادئ الإسلام و المسيحية ليقضي على العنف الذي منشأه الاستعمار البريطاني المعتمد على سياسة فرق تسد.
حرك المسيرات و قاطع الإنجليزي اقتصادياً، و استخرج الملح ليصنع منه القوة الاقتصادية التي حولت بقاء الإنجليز في الهند إلى علقم مر المذاق، ورفع من شأن العمال و الفلاحين، و كان يثق بـأن الجماهير قادرة على التغيير أفضل من النخب المتطلعة للفتات و الحصول على وظائف عند المحتل الإنجليزي، قال و هو يرى "المهراجات" يتقلدون جواهر الذهب في حفل مع سادتهم الانجليز: لا يوجد فقر في الهند فأنتم تلبسون الذهب و الجواهر، و طالبهم بنزعها لأجل الفلاحين فانصرفوا من الحفل، فقال قولته الشهيرة "لا خلاص للهند إلا على أيدي فلاحيها أما كبار المحامين والمهندسين والأطباء والأثرياء فلن نستفيد منهم شيئاً" صدق الرجل الذي خلع المعطف الإنجليزي و أرتدى طمرين ابيضين من صنع البلد ليعزز هويته ويرفع من شأن الهنود الذين كانوا منبوذين و طبقات متناحرة.
لم يكن اللقب الذي منحه إياه شاعر الإنسانية طاغور "المهاتما" قادماً من فراغ، فقد كان يرى سلوكه و روحه التي تبث عظمة الهند في كل أرجاء البلاد، و مهاتما تعني "الروح العظيمة" و الروح العظيمة التي آمنت بها الهند هي من قادتها إلى الحرية و الإستقلال، لكن هذه الروح فشلت في منع انفصال الهند إلى دولتي الهند و باكستان كما خطط لها الإنجليز، مع كل ما فعله لأجل محو التعصب الديني بين المسلمين و المسيحيين و الهندوس "لأن الجميع عيال الله" بحسب قوله، وعندما اشتدت أعمال العنف الطائفية ضد المسلمين من قبل الهندوس ذهب للصيام عند المسلمين و كان طبيبان مسلمان يعتنيان بصحته و يمرضه شخص مسيحي، و كلما ارتكبت أمته حماقات ذهب للصوم و أغلب حياته صوم يوم و إفطار يوم، لكن الكفارات عن أخطاء قومه كانت تمتد من ثلاث إلى عشرين يوم.
من أعظم ما قاله للحاكم الإنجليزي في الهند: "يمكنك قتل الثوار لكن لا يمكنك قتل الثورة" لقد فعل بالإستعمار البريطاني مالم يفعله أحد،؛ قضى على الخبث الإنجليزي و جعل تشرشل يولول، فأنحسرت إنجلترا وغابت عنها الشمس بعد أن طردت من شبه القارة الهندية، وتلاشت مستعمراتها تباعاً، و ذهبت خلف الشمس مستندة على الأمريكان في البقاء.
استفادت الهند من تعاليم الرجل الذي صدقته و آمنت بسلوكه و فلسفته و تمسكه بهويته الهندية، قال رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو وهو ينعي المهاتما غاندي عبر الإذاعة : " لقد خبا الضياء من حياتنا و تلك لعمري كارثة مزلزلة لكل إنسان من ملايين هذه الأمة، ولكني أعود فأقول إن ألف سنة مقبلة ستنقضي وهذا النور سيظل يغمر بلادنا."
قبل موته (رحمه الله) بسنوات قيل أنه أثناء صعوده القطار سقطت حذائه فسارع برمي الثانية حتى يستفيد منها من سيجدها، لا فائدة من فردة واحدة، هذا السلوك الأخلاقي الإنساني لا يمكن أن يوصف صاحبه بإنتقاص، ومن ينتقص من الروح العظيمة فليراجع نفسه، الفقير الحقيقي هو من لا يمتلك شيئاً من أخلاق الإنسانية التي أتصف بها المهاتما غاندي أبو "اللاعنف" ، أما غاندي فقد ترك خلفه أمة قوية نموها يفوق نمو دول أوبك مجتمعة ومنذ 2016 والهند "تهدد عروش الدول الكبرى بمعدل النمو الاقتصادي متفوقة على بكين بنمو وصلت نسبته 7.9% وظلت محافظة على الصدارة العام الماضي ومن المتوقع أن تتصدر لهذا العام 2018. لقد صدق لال نهرو: ألف عام سينقضي ونور المهاتما سيظل يغمر الهند.
كيف يوصف غاندي بالفقير كإنتقاص منه وهو يملك الكثير من أخلاق محمد وعيسى عليهما السلام ويتفوق أخلاقياً على المسلمين و النصارى في عهده؟! ملزمون كلنا بإعتذار عميق للروح العظيمة، وكل فقراء الروح ملزمون بإعتذار علني للمهاتما، لا النفط ولا الأراضي و لا الصحراء و لا الجبال تساوي كلمة واحدة من فلسفة ذلك الرجل الذي رمى حذائه الثانية ليستفيد منها شخصاً أخر و ليمشي هو حافي القدمين.
الإهداء إلى الصديق المحتمل سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي قال أنه "ليس فقيراً مثل غاندي و مانديلا".