[ أرشيفية ]
قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 والعالَم منقسم بين قطبين رئيسيين يتحكمان بمجريات السياسة على مستوى أغلب دول العالم، وهما المعسكر الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية والتي كان نجمها يبدأ بالسطوع آنذاك، والثاني المعسكر الشرقي ويتزعمه الاتحاد السوفيتي، والذي كان يعيش أوج قوته وأبهته.
ونادرا ما شذت دول عن خارج هذين القطبين فلم ترتبط بهما؛ ذلك لأن الخيارات السياسية في غالبها لم تكن تتجاوز هذين الخيارين لتأثيرهما الكبير عالميا.
وقد كانت اليمن الشمالية قبل ثورة 26 سبتمبر 1962، في العهد الإمامي متأرجحة التحالف أو التبعية بين المعسكرين الشرقي تارة والغربي تارة أخرى، فأما اتصالها بالغرب فعن طريق ما سمي ببرنامج "النقطة الرابعة" (Point Four Program) وهو برنامج مساعدات تقنية أمريكي مخصص للدول النامية لاسيما لدول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، أعلن عن البرنامج لأول مرة في خطاب الرئيس الأمريكي هاري ترومان في 20 يناير 1949 بمناسبة توليه منصب الرئاسة لفترة رئاسية ثانية، وقد تحدث الخطاب عن الأهداف الأربعة لسياسة الخارجية الأمريكية، وقد أُقر البرنامج من قبل الكونغرس الأمريكي في 5 يونيو 1950، وخصص له مبلغ 25 مليون دولار أمريكي للسنة المالية 1950ـ 1951، كما شكلت لجنة في وزارة الخارجية الأمريكية تحت اسم مجموعة المساعدات التقنية أشرفت على البرنامج؛ وقد كان مقر البرنامج في تعز، وتم اتهامه من قبل النظام الجمهوري الجديد بالتخابر مع الملكيين ودعمهم سرا بالأسلحة، والتجسس على الجمهوريين، فتم اعتقال عدد من موظفيه، والإعلان عن إنهاء العمل بالاتفاقية المبرمة عام 1959، مع وكالة التنمية الأمريكية التي تعتبر الغطاء السياسي للبرنامج، وسحب الترخيص لطائرة البرنامج، وإبعاد العناصر المخربة من موظفي البرنامج، وبالمقابل فقد قطعت أمريكا المساعدات السنوية لليمن البالغة ثلاثة مليون دولار. كما لوحت بسحب الاعتراف بالجمهورية كما ذكر ذلك الدكتور الشهاري. انظر: نظرة في بعض قضايا الثورة اليمنية، ص: 74.
وأما اتصالها بالشرق فعن طريق ما عرف بالجناح البدري آخر الخمسينيات وعلاقته بعبدالناصر، مقابل جناح الحسنيين، نسبة إلى الأمير الحسن عم الإمام البدر المناوئ للبدر، والغربي التوجه.
وحسب المؤرخ اليمني حيدر علي ناجي: "فبعد أن ساءت العلاقة بين مصر والمملكة عام 1957 سمح الإمام أحمد لابنه البدر التقرب إلى عبدالناصر الذي قدمه بدوره للمعسكر الشرقي، فزار معظم دوله، وحصل على صفقة السلاح الروسية وبنى ميناء الحديدة وطريق الحديدة ـ تعز على نفقة الاتحاد السوفيتي، كما أسس مصنع الغزل والنسيج وطريق الحديدة ـ صنعاء على حساب الصين، وفي نفس الوقت سمح لأخيه الحسن بالتقارب مع المملكة العربية السعودية والمعسكر الغربي، وحصل على مشاريع النقطة الرابعة، ومن ثم تكون في اليمن تياران كما أسلفنا، واستمر التنافس بينهما حتى قيام الثورة"، (معلومة خاصة).
أما الشطر الجنوبي من الوطن فقد كان شرقي الهوى والمهوى، ومناوئا كل المناوءة للحلف الغربي حد التطرف. وبعد قيام الثورة اقترب الجمهورية العربية اليمنية من المعسكر الشرقي أكثر من خلال مصر عبدالناصر الشرقي الولاء والسند الأول للثورة، لكن هذا الاقتراب لم يحمل بين ثناياه ملامح القطيعة مع المعسكر الغربي، كما هو الشأن مع سلطة الشطر الجنوبي من الوطن التي كانت حدية التعامل ولحدِّيَّة وصلابة الأيديولوجية الشرقية نفسها التي تختلف عن برجماتية الغرب ومرونته؛ ونتيجة لهذا التضاد في سياسة القطبين فقد كل منهما يغرب حيث يشرق الآخر، والعكس أيضا صحيح، ولم يكونا يتلقيان؛ لأن لكل مصالحه الخاصة وتفكيره المناقض للآخر؛ لكن ما الذي جعل أمريكا تعترف بثورة 26 سبتمبر 1962 المدعومة شرقيا في 19 ديسمبر 1962؟ أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على قيامها؟!! ما دوافع هذا الاعتراف خاصة وقد سبقها إلى ذلك كل من الاتحاد السوفيتي في 1 اكتوبر 1962؟ أي بعد أربعة أيام فقط من قيام الثورة، معلنا تقديمه المساعدات للثورة وللنظام الجديد، وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أرفقت اعترافها بالثورة دعوة تشبه الشرط في ألا تتدخل القوات المصرية في الشأن اليمني، وألا تُمس المصالح السعودية بسوء.
وقد اعترف بالثورة في أيامها الأولى إلى جانب الاتحاد السوفيتي ومصر أيضا كل من: دولة الكويت ولبنان وسوريا والعراق والسودان والجزائر وتونس، وفي الشطر الجنوبي من الوطن جماعة القوى التقدمية العدنية التي شاركت ثوار الشمال أيضا نضالهم. كما اعترفت بها أيضا منظمة الأمم المتحدة، بناء على طلب من مصر.
كتب الضابط المرتزق في صفوف الجيش الإمامي مطلع الستينيات "ديفيد اسمايلي" في كتابه "مهمة في الجزيرة العربية" يقول: "وسارعت الأمم المتحدة والولايات المتحدة معا في الاعتراف بالحكومة الجمهورية، وكان قرار الأمم المتحدة نتيجة لاقتراح تقدمت به مصر، وأيدته الدول الشيوعية والكتلة الأفروأسيوية، وجاء اعتراف الولايات المتحدة في 19 ديسمبر 1962، ولا تزال دوافعه غامضة.." مهمة في الجزيرة العربية، ص: 19. وهو نفس اليوم الذي تم فيه اعتراف الأمم المتحدة بنظام الجمهورية العربية اليمنية، كما أشار إلى ذلك في مذكراته "خمسون عاما في الرمال المتحركة" ص: 60، وقدمها لاحقا بعد أيام قليلة في يناير 1963 للسيد يوثانت، الأمين العام، والذي أضاف أن الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي عهد المملكة العربية السعودية يومها قال له عن الثورة وعن النظام الجديد: "إذا لم يكن هناك تدخل خارجي، ولم يكن النظام الجديد معاديا للسعودية فلا يوجد سبب للخلاف".
وذكر اسمايلي أن الولايات المتحدة حاولت الضغط على بريطانيا للاعتراف بالجمهورية العربية اليمنية، على الرغم من أن النظام الجديد -وفقا لسمايلي- جاء إلى السلطة بانقلاب، وكان يسيطر فقط على نصف السكان وعلى أقل من نصف مساحة البلاد، وقد ناقشته الخارجية البريطانية بجدية، وكادت تعترف بالجمهورية وبالنظام الجديد لولا تدخل البرلماني البريطاني "بيلي ماكلين" الذي كان في زيارة لليمن حينها، والتقى الإمام البدر وأتباعه، وهو من أقنع البريطانيين أن الإمام البدر لم يتم القضاء عليه تحت الأنقاض كما أذاع راديو الجمهورية العربية اليمنية، وتناقلته مختلف وسائل الإعلام العالمية، ولم يتثبتوا من صحة ذلك، وشكل صدمة كبيرة للثوار وأنصارهم بعد ذلك. فهذا ـ وفقا لسمايلي ـ ما أجل اعتراف بريطانيا بالجمهورية، وأبقت علاقتها السابقة بالقيادات الملكية؛ بل فقد أعلنت فى فبراير 1963 عدم الاعتراف بالنظام الجمهورى، وقدمت مساعدات عسكرية للإمام البدر خلال فترة مقاومته للنظام الجديد، خاصة في سنواته الأولى، كما ذكرت صحيفة اليوم السابع المصرية في 30 أكتوبر 2008. ووفقا للديبلوماسية والكاتبة الروسية "جلوبوفسكايا إيلينا": فإن بريطانيا قد جعلت من "بيحان" في شبوة مركز دعم للملكيين ونقطة تجمع لأنصارهم. وقد أمضى الإمام البدر وكثير من أتباعه سنواته المتأخرة في بريطانيا حتى توفي فيها في 6 أغسطس 1996.
ولا شك أن موقف الكيان الصهيوني الداعم للملكيين كان تبعا لموقف البريطانيين، خاصة وأن بريطانيا يومها كانت تمثل الوصي الأمين على الكيان الصهيوني الناشئ يومها. زادته الأيام تأكيدا حين كتب المؤرخ والمحلل السياسي المصري محمد حسنين هيكل أن إسرائيل قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة للإماميين، كما أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن. وقامت إسرائيل بإنشاء جسر جوي سري بين جيبوتي وشمال اليمن. وأعطت الحرب الفرصة للإسرائيليين لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية وقدرتها على التكيف مع ظروف المعارك، بعد ثلاثة عقود من الحرب، وأكد الإسرائيليون كلام هيكل نفسه.
وقد توجه جيم جونسون، زعيم المرتزقة الأوروبيين إلى طهران ليقنع الإيرانيين -تحت حكم الشاه وقتها- للقيام بإسقاط جوي، فنجحت الجهود بعد سفر مستشار المرتزقة نيل بيلي مكلين إلى تل أبيب، ولقاء موشي ديان وأميت مائير، رئيس الموساد، وشهد الإسقاط الجوي الأول للأسلحة الكولونيل جوني كوبر والتي كانت 180 بندقية، و 34 ألف طلقة ماوزر و 72 قذيفة مضادة للدبابات و68 كيلوجراما من المتفجرات البلاستيكية. وقد أخفى الإسرائيليون مصدر الأسلحة، فكانت الطائرات الإسرائيلية تحلق على طول السواحل السعودية تلقي الأسلحة في اليمن وتتزود بالوقود في الصومال وجيبوتي وتعود إلى إسرائيل، وأسمى الإسرائيليون عملياتهم Operation Porcupine. واستمرت الطائرات الإسرائيلية بتزويد المرتزقة الأوروبيين والملكيين بالأسلحة لمدة سنتين. انظر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
ووفقا لليوم السابع المصرية بتاريخ 30 أكتوبر 2008، فإن "شابتاى شافيت" رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" أدلى بحديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية فى 21 فبراير 2000 قائلاً: "إن إسرائيل لها دور كبير فى توريط مصر فى حرب اليمن لإضعاف قدرتها الاقتصادية والعسكرية، كما أنه أصدر أوامره لضباط الموساد بمعاونة قوات الإمام بدر الملكية حتى يستعيد حكمه الذى أطاح به الثوار عام 1962، وأرسل عسكريين إسرائيليين لتدريب قوات الإمام وللتعرف على القوات المصرية عن قرب، وهذا التصريح هو ما يجعل الدخول فى هذه الحرب لا ينفصل عن هزيمة 1967، بل من الممكن اعتبار المعركتين اللتين دخلهما الجندي المصرى فى اليمن وسيناء معركة واحدة متعددة الهزائم".
وقد أورد سمايلي تحليلا منطقيا منسوبا للجنرال السويدي "فون فورد" الذي تولى قيادة قوات المراقبة التابعة للأم المتحدة في اليمن، إذ ذكر أن اعتراف الولايات المتحدة بالجمهورية العربية اليمنية يهدف في مغزاه البعيد إلى إخراج البريطانيين من جنوب الجزيرة العربية، ويتصل بالرغبة في توسيع المصالح الأمريكية النفطية الخاصة في شبة الجزيرة العربية؛ لاسيما وأن للولايات المتحدة هدف متأصل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى يتمثل في السيطرة على جنوب الجزيرة العربية، لمواجهة النفوذ البريطاني، ولاعتراض خط التعاون الذي كان قد بدأ بين البريطانيين والاتحاد السوفيتي سابقا، وفقا للدكتور محمد علي الشهاري في كتابه نظرة في بعض قضايا الثورة اليمنية، ص: 69.