من تلة "السلال" شرقي مدينة تعز اليمنية (جنوب غرب) انطلقت القذيفة، ومن على منزله الصغير في جبل "صبر"، وهو أعلى منطقة بالمدينة، كان أحمد النقيب يراقب، وبعد نحو عشرين ثانية، سقطت القذيفة على منزل سكني، فقتلت أربعة مدنيين، وأصابت تسعة آخرين بجروح.
مع ما حدث شعر النقيب (33 عاما)، كما يقول في حديث مع وكالة الأناضول، بـ"غصة في الحلق، فقد كنت شاهدا على الجريمة، لكن لم يكن باليد حيلة.. صرخت مرارا ولم يسمعني أحد، وكعادتي فوضت الأمر إلى لله، فهي ليست المرة الأولى التي أشاهد فيها القذائف تسقط على المدنيين".
ويضيف المواطن اليمني "في المساء التقيت أصدقائي، وقلت لهم مازحا: لو كنت أملك حمارا لجعلته ينهق ليحذّر الضحايا من القذيفة".
عندها، طرح أحد أصدقائه فكرة مكبر الصوت، ليحذّر به النقيب المدنيين من القصف، لكن الكلفة المالية، وانعدام التيار الكهربائي، جعل الفكرة تبدو غير ممكنة، فاقترح النقيب بوقا صغيرا يعمل بالنفخ، يستخدمه الأطفال في ألعابهم.
* عاطل و4 أبواق
النقيب، وهو خريج كلية إدارة أعمال من جامعة تعز عام 2006، يقول عن فكرة البوق "جمعت أربعة أبواق، ولأنني على مكان مرتفع، وجدت أن مدى الصوت يغطي أحياء ثعبات والجحملية وجزء من حي المجلية".
وتشهد هذه الأحياء قصفا مستمرا من قِبل مسلحي جماعة الحوثيين وحلفاءهم من القوات الموالية للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، كونها أحياء تقع على خطوط القتال المحتدم منذ أكثر من عامين بين مسلحي تحالف الحوثي وصالح، المتهمين بتلقي دعم عسكري إيراني، والقوات الحكومية، المدعومة بتحالف عربي تقوده الجارة السعودية.
ومع اندلاع الحرب بين الجانبين، بداية عام 2015، أفلس متجر صغير (بقالة) كان النقيب، وهو من أسرة تتألف من 17 فردا، يبيع فيه موادا غذائية، حيث تسببت الحرب في توقف الحركة التجارية، فأصبح عاطلا عن العمل، وبقي على القمة المرتفعة، ليشبع فضوله في مراقبة المعارك.
ويمضي قائلا "مع اندلاع الحرب في ثعبات (أول نقطة للقتال بين الحوثيين والمقاومة الشعبية في فبراير/ شباط 2015)، كنت أشاهد المعارك من منزلي أعلى الجبل، الذي يطل على أحياء ثعبات والجحملية والجمهوري وصالة وأجزاء واسعة من أحياء تعز".
ويتابع "بمرور الوقت، وجدت أنه بإمكاني تحذير الناس، وإنقاذ العشرات منهم، فالزمن بين انطلاق القذيفة وسقوطها، يتراوح بين 20 إلى 25 ثانية، وهو وقت يكون أحيانا كافٍ ليتحصن المدنيون في أماكن آمنة".
كان المواطن اليمني، وهو من سكان حي "صبر الموادم"، يشاهد مواقع انطلاق قذائف "الهاوتزر" وصواريخ "الكاتيوشا" والهاون"، وأماكن سقوطها.
وهي تجربة يقول عنها بحزن "في البداية كنت أصرخ، ولا يسمعني إلا القريبون من منزلي فقط".
لكن البوق أصبح له مدى أوسع، فبدأ النقيب في توسيع نطاق المناطق التي يراقبها ويحذرها، وتمكن من شراء ناظور (منظار) مُقرب، فكانت فكرة مدهشة، وتحول إلى "بطل"، حين أنقذ العشرات من موت محقق.
* بطارية وألواح شمسية
النقيب يبقى مرابطا في موقعه ساعات طويلة، ومع احتدام المعارك يبقى أحيانا طيلة اليوم، وفي أغلب الأوقات يساعده شباب من أهل الحي، في حال أصابه الإعياء.
ويروي قصة زادت من عزيمته، "ففي إحدى المرات نفخت في البوق مُحذّراً من صاروخ كاتيوشا يتجه نحو حي ثعبات، وكان أحدهم يمر في الشارع العام، وحينما سمعني توارى خلف منزل، وما هي إلا ثوانٍ حتى سقط الصاروخ في المكان الذي كان يتواجد فيه هذا الشخص سابقا، وبعد أيام جاء الشاب وشكرني".
فكرة النقيب تطورت مع الوقت، وقدم له متبرعون بوقا خاصا بالسفن، مع بطارية كهرباء، وألواح شمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية تُقدر قيمتها بنحو ألفي دولار أمريكي، وأصبح مدى "صافرة الإنذار" يصل إلى محيط واسع.
* توثيق للقذائف
وبمرور الوقت لفت النقيب أنظار سكان تعز، وبات الكثيرون يقصدونه.
وعن هذا يقول المواطن اليمني "أنا الآن مرابط منذ منتصف عام 2015، ومنذ عامين وجدت أن هناك فائدة كبيرة تحققت.. المكان الذي أرابط فيه أصبح مزارا.. الكثيرون يصعدون إلى المنطقة لمشاهدة المدينة من أعلى قمة، ولتناول نبتة القات (نبتة يلوكها اليمنيون لساعات، ويعتقدون أنها تمدهم بالطاقة والتركيز".
ولا تقتصر مهمة هذا المواطن اليمني في تحذير الناس من القذائف والصواريخ، فهو أيضا يوثق في سجلاته بالتفصيل زمن ونوع ومكان إطلاق وسقوط القذائف، ومنذ بداية شهر رمضان الماضي، أطلق الحوثيون 1537 قذيفة على أحياء تعز، بحسب رصد النقيب.
والحرب في تعز -وفق النقيب- "دمرت كل مناحي الحياة في المدينة، بعد أن كانت تعز قبلة الجمال، وكان السياح والناس عامة يتوافدون عليها من كل مكان.. الآن كل شيء تدمر تقريبا".
وإجمالا تسببت الحرب حتى الآن في تردي الأوضاع الإنسانية، وأودت بحياة أكثر من عشرة آلاف يمني، أغلبهم مدنيين، وأصابت ما يزيد عن أربعين ألفا بجروح، وشردت قرابة ثلاثة ملايين في الداخل (من أصل 27.4 مليون نسمة)، وفق الأمم المتحدة.
* أنقذ أسرتي
متحدثا عن النقيب يقول أمين الحكيمي، وهو أب لستة أطفال، ويسكن في حي المجلية شرقي تعز، في حديث مع وكالة الأناضول، إن "الأخ الذي يعمل على صافرة الإنذار، له الفضل بعد الله في نجاة أسرتي".
ويوضح أنه "قبل أسبوع كانت أسرتي بالكامل في إحدى الغرف، وحين سمعوا صافرة الإنذار اختبأوا في مكان آمن، وسقطت قذيفة هاوتزر على الغرفة التي كانوا فيها.. الحمد لله لم يصب أحد بأذى، لكن القذيفة خلفت دمارا كبيرا".
وبنبرة امتنان، يشدد الحكيمي على أن "هذا الرجل ليس فضله عليّ فقط، بل على المئات من المدنيين في تعز، بعد أن كان سببا في إنقاذ حياتنا".