[ أرشيفية ]
نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا للكاتبة اليمنية منال قائد عبد الرحمن المحققة الميدانية بمنظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان، احتوى قصصا مروّعة عن مشاهداتها للحياة في مدينة الحديدة الساحلية على البحر الأحمر:
كانت الساعة التاسعة صباح صيف حار عام 2015 عندما دمرت غارة منزل أشواق وقتلت أطفالها الأربعة أثناء تناولهم وجبة الفطور، وعندما استعادت أشواق وعيها علمت أن أطفالها قد قُبروا ولن تراهم مرة ثانية.
لكن، ما جعل كارثة أشواق أخف وطأة -وفق بعض من شهود العيان- أنها لم تر أحباءها يُحملون في شاحنة لنقل الدجاج المجمد، والدماء والمياه تقطر منها.
كانت تلك أول حادثة أشاهدها أثناء عملي الجديد مع منظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان، ولا تزال حتى اليوم تسكن رأسي وتلاحقني كظلي.
الميناء الرئيسي
هذه واحدة من ملامح الحياة في مدينة الحديدة الساحلية شمال اليمن على البحر الأحمر، حيث يعتمد معظم سكانها على صيد الأسماك، وهي الميناء الرئيسي الذي تدخل عبره معظم الأغذية والواردات الأخرى لليمنيين.
ظلت الحديدة منذ 2014 يسيطر عليها مسلحون يمنيون يُسمون الحوثيين، لكن تحالفا دوليا تقوده السعودية ويجد دعما من الولايات المتحدة يعتزم طرد الحوثيين من الحديدة، ومنذ ذلك العام وحتى اليوم استمر التحالف في اعتماده على القصف الجوي الذي لا يتوقف بالقنابل بما فيها العنقودية. ويخطط هذا التحالف الآن لغزو الحديدة للسيطرة عليها والاستيلاء على الميناء.
طلب السعوديون من الرئيس الأميركي الدعم بعدما أعلن عن خطة لتزويد السعودية بمزيد من القنابل التي ستوسع مدينتنا مزيدا من الخراب والدمار. وقد وصف الرئيس الأميركي الجديد قنابله التي وعد بها أصدقاءه السعوديين بأنها "جميلة!".
وأشارت إحدى عمليات التصويت بالكونغرس إلى عزمه على الموافقة على بيع القنابل للسعودية. ليت السياسيين الأميركيين يعلمون مدى معاناة أهل الحديدة.
نقص الطعام والدواء
عندما بدأ التحالف يشارك في الحرب الأهلية باليمن، فرض حصارا على الحديدة وقصف روافع الميناء التي تفرّغ السفن من البضائع الحيوية التي كانت تتدفق من هنا إلى جميع أطراف البلاد. أما الروافع البديلة التي دفعت ثمنها الولايات المتحدة، فلم يُسمح بوصولها إلى الميناء، كما لم تصل الكميات الكافية من الأغذية والوقود والأدوية.
شهدتُ مؤخرا امرأة من قريتنا القريبة من الحديدة وهي تحتضر لعدم توفر سوائل غسيل الكلى، كما شاهدت الأطفال يتحولون إلى هياكل عظمية، حيث لا تستطيع أغلب الأسر توفير أكثر من وجبة واحدة في اليوم لأفرادها.
وتفتقر المستشفيات بمدينتنا إلى الكهرباء والأدوية ولا تستطيع دفع رواتب العاملين بها، وحراسها يبدون كالروبوتات خلال مرافقتهم الموتى.
وحتى الصيادين بالبحر لم يعودوا قادرين على توفير لقمة العيش لأسرهم لأن قوات التحالف تطلق نيرانها على قواربهم في البحر بزعم أنها تتعقب الحوثيين. وفي إحدى حوادث إطلاق النار من مروحية أباتشي على الصيادين، لم يجد زملاؤهم حتى أجزاء من جثامين الضحايا.
وفي مارس/آذار الماضي هاجمت الأباتشي قارب لاجئين صوماليين. ولا أزال حتى اليوم أشم رائحة ملابسهم المشبعة بالعرق والدم.
أزمان غابرة
الموظفون بالخدمة المدنية لم يتسلموا رواتبهم لثمانية أشهر، واستمر انقطاع الكهرباء لعامين باستثناء ما يستطيع الأهالي توفيره من ألواح الطاقة الشمسية أو مولدات الديزل الصغيرة. وقبل شهرين انقطعت إمدادات المياه لانعدام الديزل الذي يحرك المضخات، فأصبح الناس يحفرون آبارا في الشوارع للحصول على الماء، كما بدؤوا يستخدمون حطب الأشجار لطهي الطعام كأننا عدنا إلى أزمان غابرة.
في العام الماضي قصف التحالف سجنا تابعا للحوثيين ولم يُقتل أي من المسلحين الحوثيين المستهدفين، بل فقد عشرات النزلاء أرواحهم وبينهم معارضون سياسيون للحوثيين وأناس متهمون بجرائم صغيرة. كلنا يمنيون نكره هذه الحرب ومسجونون تحت قبضة الحوثيين. الحوثيون يسجنوننا والتحالف يقتلنا في سجون الحوثيين.
رأسي مشحون بقصص تتكرر فيه بلا انقطاع.. وضعت رأسي على الوسادة لأنام.. الطفلان ضحيتا اللغم الأرضي في يناير/كانون الثاني الذي فقد أحدهما إحدى رجليه، والصياد الذي ذهب إلى البحر ولم يعد أبدا، وأشواق وأطفالها الأربعة.
عندما تحدثت لزوج أشواق قال لي إن عملي كمحققة في حقوق الإنسان عديم الفائدة.. "لا أحد يستطيع محاسبة أي ممن قتلوا أطفالي، ولا أحد يعلم أن أطفالي قد ماتوا وأن أجسادهم احترقت، أو أنني قضيت يومين أبحث عن بقايا جثامينهم".
أي غزو لمدينتنا من أي جهة سيكون جريمة لا تغتفر.