[ تحدث مقبل نصر عن مثابرة الشاب والكثير من المواقف الشخصية له في تعز ]
تحتفظ الذاكرة بالعديد من المواقف الشخصية التي لا تنسى، خاصة تلك المتصلة بالمعاناة، وتحدث في فترة الشباب الأولى، من حياة كل فرد، خصوصا أولئك القادمون من الريف إلى المدينة.
في هذه الحلقة يستعيد الأستاذ مقبل نصر غالب مواقف ومشاهد من معاناته الشخصية، في فترة التعليم التي قضاها في مدينة تعز، لينقلها للقراء، وهي مواقف حاشدة بالنكد والضنك كما يحب له وصفها، وبالتأكيد تعرض لها الكثير من الشباب في مطلع حياتهم بصور مختلفة.
السكن مقابل خدمة الحمير
استأجر جماعة من القرية منزلا في تعز لإيواء الحمير يومي الأربعاء والخميس، وكانوا وقتها يصلون من القرية محملين البن يوم الأربعاء، كي يباع يوم الخميس في سوق الشنيني، وعندما استأجروا المكان سمحوا لي بالسكن فيه مجانا، مقابل رعاية تلك الحمير يوم الخميس، وتنظيف البيت يوم الجمعة، موعد مغادرتها إلى القرية.
ذات يوم تكاسلت عن إخراج القمامة في موعدها فاحرقت الحشائش داخل المنزل وخرجت الحمير، وكان جوار البيت صيدلية التعاون تابعة لشخص يدعى المقحفي، وعندما شاهد الدخان يتصاعد من النوافذ اتصل بالإطفاء، وجاء رجال الاطفاء وكسروا الاقفال، وأطفئوا الحريق، وسال الضابط الحضور عن المتسبب بالحريق؟ فرددتُ عليه بالقول: "شوية وبل" والوبل هو الحشيش اليابس، فطلب الضابط من الجنود الإمساك بي، وهمس أحدهم في أذني: هل أنت غبي، سوف يسجنوك، ولن تخرج إلا بأجرة سيارة الشرطة، وكانت وقتها أربعين ريالا، ومن أين لك هذا المبلغ؟
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يحكي في حلقته الـ27 رحلته إلى عدن وتعامل السلطات مع الوافدين
استأذنت منهم لشراء قفلا بدل الذي كُسر أثناء إطفاء الحريق، ودخلت لأحد الدكاكين، وهربتُ من الباب الثاني إلى عصيفرة، وهناك جلستُ فيها ثلاثة أيام حتى سقطت القضية بالتقادم، وكان هذا في العام 1966م، وحينها تركتُ المنزل، وكانت الحمير أوفى من أصحابها حيث رفضوا الذهاب مع راعي آخر.
مكافأة في السكن
انتقلتُ للسكن مع زميل لي في المدرسة استأجر له والده دكانا من منزله في حارة النسيرية، كي يتفرغ للدراسة والمذاكرة، وكنا ندرس سويا ونذاكر الدروس، وننام، ومعفي من دفع رسوم الإيجار الشهري.
قرر الزميل أن يلتحق بحرس الحدود والجمارك للعمل معهم، وكان ذلك في العام 1967م، وبقيتُ في الدكان لوحدي، وأعطاني والده الاستئجار والبقاء في المكان لمة عام بدون دفع إيجار، وفاء لابنه.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في الحلقة الـ26 يكتب عن الخضر والعدار والنباش في الثقافة الشعبية بمناطق العدين
وذات صباح ذهبتُ إلى الجامع لصلاة الفجر قبل بزوغ الشمس، وردني العسكر من الباب بالقول: "يسك"، أي ممنوع التجول، وعندما استفسرتهم عن السبب، قالوا بأن ذلك اليوم الأول من رمضان، فأدركت أن عليا أن أصوم بدون سحور.
موقف لا ينسى في العيد
في إحدى السنوات تم إعلان العيد بعد صلاة الفجر، وكنتُ قد نمت ليلتها باعتبار أن يوم الغد سيكون الثلاثين من رمضان، وصحوتُ الساعة الثانية ظهرا، وقد انتهى الناس من فطور العيد، وكذلك انتهاء وقت الغداء في القسم الداخلي، ولم يكن في جيبي فلسا واحدا، وعدتُ إلى غرفتي بالدكان باكيا، حتى أبكيت الباب والقفل والمفتاح، ورفعتُ يدي إلى السماء متضرعا، فكانت أقرب من الجيران.
لم تمر سوى خمس دقائق، حتى جاءت إحدى النساء، وفوق رأسها طعام متنوع، بما في ذلك لحم الضأن والشاهي، ووضعته أمامي، وقالت لي: هذا لك وعيدك مبارك، فالتهمتُ الطعام كله، فبكت تلك المرأة بعدما شاهدتني في ذلك الوضع والحال، وعرضت عليا أن تذهب لتأني لي بالمزيد، فقلتُ لها: يكفي شبعتُ"، وكانت حينها تبكي، ولاحظت الأمر صاحبة البيت، فعاتبتها تلك المرأة حول أسباب تركهم لي بهكذا وضع.
مالك البيت أيضا لامني عن أسباب عدم طلبي للطعام من منزله، فأخبرته بأني لستُ شحاتا، فرد عليا بأن منزله يعد منزلي، وكي يطيب خاطري أخذني بجولة إلى منطقة الحصب مع أولاده، وسلمني بندق شيكي لأرمي به، واحمله على كتفي بزهو، وعدنا إلى البيت، وأعطاني قات، ومضغنا القات سويا، وظل يحكي لي قصته في فلسطين، عندما سافر للجهاد ضد اليهود في 1948م كي لا يحتلوا فلسطين، وتطرق في حديثه لخيانة الجيوش العربية للمجاهدين، ودور الأنظمة العربية وبريطانيا، وحكاية هروبه عبر الأردن بعد سقوط فلسطين، أما المناطق التي وصفها لي فلم أعرفها الا في العام 1976م أثناء دراستي في الأردن.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في حلقته الـ25 يستعرض أدوات تلاشت وحكم وأمثال في مناطق العدين
من جملة ما سرده لي المدة التي قضاها جائعا ومشردا، ومن عجائب حكايته قوله بأنه وصل إلى منطقة السلط، وهي منطقة أردنية، ولم يكن يملك في خزنته الشخصية، - علبة خاصة – أي شي، ثم فضل العودة إلى اليمن، ومسقط رأسه في القناوص التابعة للمحويت، وأصب لاحقا ضابطا في الأمن المركزي.
رحلة مع الوزف
بدأت أعمل في الوزف يوم الجمعة، وكنتُ أحمل كيس وزف إلى مشرعة وحدنان، وأدور في منطقة صبر، وأكسب بعد كل كيس ريالين، أنفقها طوال الأسبوع، قال لي مالك البيت حينها، بأني أستطيع دفع إيجار الدكان، والتي كانت حينها مقدرة بأربعة ريالات في الشهر، كباقي الجيران، وعرض عليا التشارك مع أياً من أصدقائي لدفع الإيجار، والعجيب لم يمر شهر حتى أصبح هناك خمسة منافسين لي في بيع الوزف يوميا في منطقة صبر، وصدق الشاعر حين قال:
لا يسلم الإنسان من ضد
وأن حاول العزلة في رأس جبل
صناعة الأكياس
حاولت أصنع أكياس لأصحاب الدكاكين، وكنتُ اشتري من العمال أكياس الأسمنت الفارغة، واصنع منها أكياسا صغيرة ومتوسطة يكيلون للزبائن فيها، ولم يمر سوى شهران حتى أصبح هناك ثلاثة من أهل القرية يصنعون مثلي ويبيعون بأرخص .
حاولتُ أشتري مادة الكبريت بالجملة، وأبيعها بالتجزئة، وكنتُ ألف السوق كله لبيعها، وتكرر نفس الأمر، لم يمر أكثر من شهرين حتى أصبح إلى جانبي ثلاث فتيان آخرين يبيعون الكبريت في السوق.
العيش في دكان سلاح
وذات مرة طلب مني زميل أن أترك هم ايجار الدكان، وأنتقل للسكن معه جوار جامع الفلاح في دكان مجاني، صاحبي هذا من القاعدة وكان في الدكان مخزن أسلحة عليه طربال، وأخفى صديقي عني الأمر، ولم اعلم إلا ذات يوم عندما جاءت أطقم تابعة للشرطة العسكرية وأخذت الطربال بما فيها، وكان صاحبي من أنبل الاصحاب، وقال للشرطة بأني لم أكن أعلم بشي، فتركوني وأخذوه إلى السجن الحربي، واحتجز هناك لثلاثة أسابيع.
العيد مرة أخرى
تكررت معي حكاية مرة ثانية، ولكن بعد كثر اصحابي في منطقة الضبوعة التي توجهتُ إليها، ومن المصادفات أن الأستاذ خالد محمد سعيد فرح بقدومي، وأعطاني أجرة موتور اذهب على منطقة الكنب لاعتذر له من الأستاذ عبدالصمد ثابت الصليحي، بأنه لن يستطيع حضور مأدبة الغداء بسبب الضيوف، فقال الصليحي: "تغدى انت بدلا عنه"، فقلتُ: "وهو المطلوب إثباته".
العشاء الذي لم يتم
وبعد استقرار الوالد في تعز، كنتُ اتجه اليه كلما داهمني الجوع والطفر، وكان والدي يجيد الطباخة العدنية بأنواعها، ومع ذلك لم أسلم من المقالب، فذات مرة عزمني طلابي من بيت الحروي فطور وعشاء في رمضان، ولقيتُ ابي فقال "تعال اتعشى عندي ذبحت لك الأرنب الجميل" قلتُ له: "أنا معزوم عند تجار كبار ".
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في حلقته الـ24 ينبش في الذاكرة الشعبية في العدين ويستعرض مفردات ونباتات وحكايات انقرضت
وقتها فطرنا تمرا في مسجد القرشي وصلينا المغرب، وتوجهت إلى بيت الحروي، لكني تفاجأتُ بصراخ يزلزل أركان البيت، وعرفتُ حينها أن ابنهم عبدالمنعم توفي، وكان رحمه الله من أذكى الطلاب، وكان المنزل مزدحما في داخله وخارجه بالناس الذين حضروا للتعزية، ومن قال من الحضور أين العشاء؟ لعنوه البقية، وافحموه بالرد: "حسك عند بطنك"، عندها دارت بي الدنيا ودرتُ معها، وقلتُ في نفسي بأن والدي سيكون قد أكمل عشاءه بالتأكيد، وذهبتُ على صائغ الفضة في باب موسى، والذي كان من عادته تأخير العشاء، ولحقت نصف مائدته، وأفاجئ بالوالد خلفي، فخاطبني ساخرا: "هؤلاء التجار الكبار قول ما تشتيش تجي عندي يا عاصي"، ولم أعرف أرد عليه جوابا سوى بالقول: "غدا سأكون عندك".
*خاص بالموقع بوست.
*يتبع في الحلقة القادمة.