[ مقبل نصر غالب تحدث عن وضع عدن والسفر إليها ]
عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم
شاسير له ليلة ما شرقد النوم
هذه كانت أمنية المسافرين إلى عدن، وهي أغنية غناها الموسيقار الفنان المرحوم أحمد بن أحمد قاسم، وكان السفر إلى عدن يأخذ مسير عشرة أيام من صنعاء، أو أربعة أيام من تعز.
لم يخطر على بال الشاعر أن السفر سيكون بالطائرة ساعة واحدة من صنعاء إلى عدن أو اقل، ولم يتوقع أن السيارة ستقطع المسافة من تعز إلى عدن في ساعتين.
كانت الحركة في اليمن طبيعية جدا تتحرك في إطار الوطن الواحد، لا أحد يسألك من أنت ولا من أين أتيت، وتتحرك بلا جواز ولا بطاقة، وتدخل عدن وقت ما تشاء، وتخرج منها وقت ما تشاء، وتنام في المسجد أو في المقهى، أو في الشارع، ولا أحد يقف في طريقك، إذ كانت عدن مفتوحة للجميع، وكل الأجناس والجنسيات، ولا يوجد تقسيم شمالي وجنوبي ولا حضرمي وصنعاني، فقط من لهجتك يستطيع التمييز أنك "جبلي أو بحري".
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في الحلقة الـ26 يكتب عن الخضر والعدار والنباش في الثقافة الشعبية بمناطق العدين
كان الوضع العام للناس أن الكل يعيش ويعمل على أساس يمني، والأجانب يعيشون في ظل القانون سواء، والطرقات كلها زحمة، لابد أن تأخذ طفلك في يدك حتى لا يضيع في الزحام، أذكر عندما كنت في منطقة الهاشمي في الشيخ عثمان، وأسكن في بيت خالي، أفلتت جدتي يدي كي تخرج الفلوس من الشنطة، وتحاسب صاحب المكان في معرض تجاري تحت مسجد النور، وكنتُ حينها في الخامسة من عمري، ولكن للأسف ضاعت مني، وافتقدتها وافتقدتني، ودفعني ذلك للبكاء، وصرخت بأعلى صوتي، فعادت إلى نفس المعرض، وكأنها أعادت لي روحي، وللعلم هنا فأول شهادة دكتوراه في الجزيرة العربية حصل عليها طالب من عدن عن شعر الغناء الصنعاني.
دخول بدون عقبات
في أول رحلة شخصية بالنسبة لي إلى عدن، فقد كانت بعد الاستقلال، وتحديدا في العام 1968م، وذهبت السيارة إلى عدن مباشرة دون حواجز ولا تفتيش، مثلما تعودنا ذلك قبل الثورة، لا توجد خشبة وبراميل إلا أمام قصر الإمام في صالة بمدينة تعز.
مكثتُ شهرين في عدن فقط وقررت العودة، وتفاجأت أثناء عودتي إلى تعز بوجود خشبة في الشريجة تسجل أسماء الواصلين من عدن، وهو تسجيل عادي جدا، حيث يسجلون الاسم والعمل وبدون اثبات هوية، أبدينا احتجاجنا على تسجيل تلك البيانات، واعتبرناها أمرا كبيرا بحق المواطن والوطن اليمني.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في حلقته الـ25 يستعرض أدوات تلاشت وحكم وأمثال في مناطق العدين
كان ردهم بأن عملية التسجيل لا تعني إرجاع بعض الشخصيات، ولكنها عملية للحصر فقط، وبعد احتدام الجدل معهم، جرى عدنا بطريقة الحصر لا الأسماء.
بعدها تم نقل الجمرك من الراهدة إلى الحوبان قرب مدينة تعز، ولا نعلم عن سر هذا النقل، وكانت المنافذ الحدودية تدقق في الأجانب، فلا يمر أجنبي إلا بتصريح من الإمام برقيا وشخصيا.
كانت رحلتي إلى عدن بحثا عن عمل رسمي، طلبتُ الالتحاق بمعسكر طارق في خور مكسر، وكان ردهم عليا "لما يطلع شنبك تعال"، وذلك لصغر سني وقتها، وطلبت الحصول على ليسن (رخصة قيادة سيارة)، فردوا عليا بنفس الرد، وطلبتُ الحصول على جواز سفر، وكان جوابهم نفس الجواب.
وذات مرة أبديتُ لخالي رغبتي بالسفر غلى الكويت، فقال لي: قال عليك الفيزة (تأشيرة دخول)، وأنا اتكفل بالنول (تذكرة باخرة)، فلم أستطع السفر، ولجأت للعمل في بوفية بمهنة "كمسري" تابعا للمقاول شرف فارع سالم، وذلك كي أتمكن من جمع أجرة العودة إلى تعز، وأعود إلى مدرستي.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب في حلقته الـ24 ينبش في الذاكرة الشعبية في العدين ويستعرض مفردات ونباتات وحكايات انقرضت
هذه السكينة والهدوء في عدن لا تعني عن القول بعدم وجود بلاطجة في عدن، فقد كان علي حيرو يقود عصابة صومالية، وعبدالسلام الشيباني يتزعم أخرى وكذلك شخص يدعى الحشاش، وكانوا يخوضون معارك بالبواكير(عصيان معكوفة، وكانوا يتمتعون بأجسام قوية تتحمل الضرب، وضرباتهم تقصم الظهر، وغالبا ما يتمركزون قرب المقاهي، مثل مقهى زكو وحافة حسين، ويطلق في عدن على الحارة يسمونها حافة.
يتبع في الحلقة القادمة.
*خاص بالموقع بوست.