[ مقبل نصر غالب - الموقع بوست ]
الفقيه العلامة محمد الحسيني من مواليد الحداء بذمار، شخص كبير السن وضرير، لكن تسري فيه روح الشباب الثورية، وضايقه الإمام يحيى في معاشه، وضاق من معارضته له، فهاجر إلى تعز لدراسة فقه السنة في المسجد، وهو مرجع في اللغة والتاريخ ومكتبته في البيت تجمع مآت المخطوطات المجلدة، حتى في النباتات والطب، وظل محافظا على هيئته ولبس القاووق طول حياته.
كان يتقدم المسيرات ويهتف بالشعارات الثورية، ويداوم على ندوات المخلافي ويحبه كثيرا، وذات مرة أطلقت رصاصة في جامع المظفر والمخلافي يلقي خطبته، قفز الشيخ الحسيني يصرخ ويحضن المخلافي، ويقول "اقتلوني انا أيها الشيوعيون"، ويصيح بأعلى صوته "احموا المخلافي".
أما العلامة عبدالرحمن قحطان، فقد كان فقيها وخطيبا وشاعرا وأديبا، ورجل صريح لا يجامل ولا ينافق، مثلما كان أيضا تربوي، واستفدنا كثيرا من دروسه الفقه واللغة والإعراب.
يوميات المركز الإسلامي
كان المركز الإسلامي في فترة العصر من كل يوم لا تخلو قاعته من نشاط، إما دروس تقوية للشباب في المواد العلمية كالرياضيات، من قبل الشباب الذين سبقونا في الدراسة بالمرحلة الثانوية مثل المفكر أحمد قائد حسين، وعثمان غانم الحمادي، أو دروس تقوية في النحو من قبل العلامة النحوي ناجي سعيد القيسي المخلافي، أو محاضرات فكرية.
وكان هناك يوما جرى تحديده لدراسة الصفحة الاسبوعية التي سوف يقرأها الشباب في المساجد بعد صلاة الجمعة، وبعد صلاة المغرب، يتم تصحيح القراءة للشباب، بحيث تكون بدون أخطاء نحوية، فيعملون على تشكيل الكلمات، وإيضاح الأسباب، بينما كانت المكتبة مفتوحة لمن يرغب في القراءة والاستعارة.
منظر لمدينة تعز في العقود الماضية
أما مدرسة تحفيظ القرآن الكريم فقد تفرغت للقرآن تلاوة وتجويد وحفظ، وليس فيها محاضرات ولا ندوات، وكان مديرها الأستاذ نصر أحمد ناصر الشميري.
وبالنسبة للندوة الأسبوعية فكانت تبدأ بالقرآن الكريم الذي يرتله الشاب على منصور الشميري، وهو أحد الخريجين من مدرسة تحفيظ القرآن الكريم، ثم كلمة الشباب التي تلقى بلغة سليمة، ثم قصيدة للشاعر علي أنعم الشرعبي، الذي كان المخلافي يطلق عليه "شاعر المصحف" و "متنبي تعز"، وأحتفظ ببيتين من الشعر ظلت في مكتب المدير العام لمدة ثلاثين عاما لم ينشرها أحد، والتي تقول:
من هاهنا شمس المعارف تشرق
وتمزق الغسق اللعين وتسحق
ابدأ على رغم الحسود فإنها
ستظل في كبد السماء تتألق
ويلي ذلك يليها كلمة العلماء التي يلقيها على الجميع بتألق المخلافي، رحمه الله، وغالبا ما كان يقدم الندوات الأستاذ سعيد فرحان عبدالسلام الشرعبي، مدير مدرسة الثورة الثانوية، وهو الاخ الشقيق للأستاذ التربوي هيال فرحان مدير الشؤون التعليمية في مكتب التربية.
يتداول فترة الشعر أحيانا الأستاذ عبدالرحمن قحطان، كما يتداول فقرة الشباب عبدالله عبدالجليل المخلافي، وأحمد محمد قائد الصبري، وعبدالقادر قحطان وآخرون.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يتذكر: كنتُ وكانت تعز .. ذكريات عن الدور المصري والزخم الثوري والمركز الإسلامي
شخصيات مثلت نواة التعليم في تعز
رئيس لجنة الشباب كان إسماعيل مسعود ناجي، وهو شاب نشيط، ولديه خبرات متنوعة، وكان يفيدنا حتى في اللغة الإنجليزية، وبجانبه نخبة من الشباب مثل: شرف الدين عثمان، وزيد الشامي، ومحمد ردمان الشميري، وأحمد مجلي البعداني، ومحمد أحمد رجاء، وياسين حميد محمد، وعبدالحكيم شرف أنعم الحمادي، وآخرون.
الشيخ عبدالملك داوود مع حفيدته
بالنسبة لي بدأت أتدرب على الخطابة، وبذل الأستاذ القدير عبدالملك داوود الحدابي جهدا في تدريبي، بما في ذلك تدريبي في ديوان بيته، وهو عالم جليل، وتربوي أصيل، ومثقف واسع الثقافة، وفقيه ولغوي، وكان مدير مدرسة الثورة الكويتية في رأس الجحملية، بالإضافة إلى أنه كان خطيب جامع الأصنج، وعنده قدرة على الحوار مع الشباب بأريحية، ومنطق، وابتسامة، وصبر.
ديوان المقيل التابع للشيخ إبراهيم عقيل كان متنوعا، بين صحيح البخاري، والتفسير، والمولد النبوي، وكان الشيخ كبير السن، وعمل وزيرا للمعارف أيام الإمام يحي، وفي عهد الإمام أحمد عُين كمفتي لتعز، ومقرر الندوات في ديوان الإمام، وخطيب جامع المظفر من أول الجمهورية، وكانت خطبته تمتاز بالإيجاز والسجع والعمق، وله كتاب في الفتاوي، وكتاب في المواعظ والخطب، وديوان شعر في التصوف.
الشيخ إبراهيم عقيل
كان لدى الناس حب كبير لبعض، وحب لتعليم الشباب، وحب فيما بينهم، فالطالب المتقدم يعلم الطالب المتأخر، وحب أيضا لمساعدة الآخرين، بدون تصنيف، وكذلك حب لحل المشكلات بمسؤولية، وأتذكر أنه وصلت شكوى طلاب القسم الداخلي إلى المخلافي فقام بتحديث الفرش والبطانيات وتحسين الغذاء، واستبدل مدير القسم، وكلف الأستاذ خالد محمد سعيد بإدارة القسم، اضافة الى عمله مدير مدرسة الثورة الابتدائية، وتفرغ الأستاذ عبدالرؤوف نجم الدين لإدارة مدرسة الشعب الإعدادية.
وكان لدى الطلاب حب للعلم، وتفاني من أجله، وتنافس في إجادة التعلم ومهاراته، يبحث الطالب عن المعلومة، ويصر على الفهم، وينوع المصادر حتى يفهم، وكذلك واحترام متبادل بين الطلاب والمدرسين.
المخلافي يحرج مذيعا في عيد الثورة
وأتذكر هنا موقفا للمخلافي في احتفال عيد الثورة في ميدان الشهداء، حيث قدمه المذيع بهذه الطريقة: " هنا في المنصة بيننا من هم عملاء السعودية، عملاء الملك فيصل خونة للوطن، لا تصدقوهم مهما خطبوا وتحمسوا، الكلمة الآن لمدير التربية المخلافي فليتفضل".
قال المخلافي للمذيع ساخرا: " ليش خليت اتهامك مبهم، تخلينا نشك بكل الذين في المنصة، بما فيهم المحافظ والقائد ومدير الأمن والقضاة، حدد أسماء العملاء ونحن نحاكمهم هنا في المنصة أمام الجماهير وندوسهم بأقدامنا، هات الأسماء والأدلة والقضاة موجودون، ونعطيك ساعة تذهب إلى المنزل لإحضار الأدلة، ومعك العسكر، وسوف نعطيك وساما على الوطنية والإخلاص، لا نريد اتهامات جوفاء مؤدلجة، ونحن في معركة الثورة والجمهورية، كيف نحذر من أناس لا نعرف من هم"، وبعد هذا الرد اختفى المذيع من المنصة تماما.
حديث عن تعز زمان
تعز جميلة بهوائها الجميل، وأشجار الكافور تكسوها من كل مكان، ويقال إن للكافور دور في مكافحة البعوض، وفعلا كانت بدون بعوض، لكن للأسف تلك الأشجار جرى قطعها والتخلص منها للأسف.
ماؤها العذب ينزل من صبر على قنوات، تشمل المدينة من عدة أماكن، وفائض الماء يصل حوض ايكة في عصيفرة الكثيفة بالأشجار، وهذا الماء العذب للشرب والطهي، أما ماء مشروع المياه من الحوبان، ففيه ملوحة، وكان يستخدم للغسيل والتنظيف.
ياسين عبدالعزيز القباطي
كنا نسير يوميا من القسم الداخلي في أقصى غرب المدينة الذي كان يطلق عليه "باب المداجر"، حتى رأس الجحملية مشيا على الأقدام، كي ندرس صف أول اعدادي، ولم يكن بالمدرسة فراغ سوى لطلاب اول اعدادي فقط، ونعود في الظهر مشيا أيضا إلى القسم الداخلي لتناول وجبة الغداء، وفي الطريق نروح على أنفسنا بنقاش فكري ثقافي، ولا نحس بتعب.
الدور المصري السوري في التعليم
كان المدرسون جميعهم من سوريا، ما عدا إثنين يمنيين، هما مدرسي التربية الإسلامية عبدالصمد الصليحي، وعبدالرزاق البراق، الذي كان يحرر صفحة أسبوعية في صحيفة الجمهورية بعنوان التربية الإسلامية.
وبدأت يمننة المناهج في التربية الاسلامية بملازم استانسل تصرف للمدرسين فقط، وبقية الكتب كانت مصرية، وعندما انسحب الجيش المصري سحب معه المدرسين والخبراء والفنيين، فتعهدت سوريا بتغطية العجز في المدرسين، وأرسلت كفاءات تربوية في كل المواد.
وفي الثانوية الوحيدة في تعز والشعب الإعدادية كان يجري تدريس صفوف ثاني وثالث اعدادي فقط، وبعض المدرسين في الابتدائية، ويتم توزيع كتب القراءة السورية في الابتدائية.
وفي وقت لاحق صدر قرار جمهوري بإنشاء المجلس الوطني لإعداد دستور دائم للبلاد والترتيب لانتخابات نيابية، وعلى رأس المجلس كان الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر (رحمه الله)، وضم في عضويته كلا من عبده محمد المخلافي، وتعين أيضا ياسين عبدالعزيز مديرا للتربية والتعليم في تعز، وورث الإشراف على المركز الإسلامي، والمعهد الديني، ومدرسة تحفيظ القرآن الكريم، وبدأنا مرحلة جديدة.
يتبع في الحلقة القادمة.