[ الشيخ علي سالم الحريزي في صحراء المهرة ]
يصف نفسه بالرجل البدوي، ويعتبر ذلك جزءا من هويته وانتمائه لأرضه ووطنه، ويملك كل الثقة في نفسه كرجل عاصر ظروفا مختلفة بالنسبة لحياته الشخصية، وكذلك حياة البيئة التي جاء منها، والوطن الذي ينتمي إليه.
إنه الشيخ علي سالم الحريزي، أحد أبرز الشخصيات في محافظة المهرة الواقعة في شرقي اليمن، والتي تعيش اليوم مخاضا صعبا بعد الوجود السعودي الذي وصل إليها نهاية العام 2017.
لم يكن الحريزي حتى العام 2017 معروفا لدى أغلب اليمنيين، ولكنه بعد هذا التاريخ أصبح أحد الرموز اليمنية المعروفة بمواقفها ونضالها، وأثار ولا يزال اسمه الكثير من الجدل، داخل اليمن وخارجه.
إنه اليوم في نهاية الستينيات من عمره، فهو من مواليد العام 1960 كما يتذكر، وتخبرك ملامح وجهه الكثير من التفاصيل عن حياة ترعرع فيها، وعاصر مختلف ظروفها بدءا من حقبة السبعينيات التي كانت مليئة بالأحداث والتقلبات، وصولا لهذه اللحظة من حياته.
تلك الأحداث صقلت تجربته في الحياة، وأكسبته مهارة كبيرة في تحليل التطورات، ومعرفة الناس، وتقديرالمواقف، ويضاف لذلك فراسته التلقائية كأحد رجال البدو الذين أكسبتهم الصحراء الصبر والرجولة، ووهبتهم الإدراك في أهمية العمل الجماعي، والإيمان بأهمية الجماعة وتماسكها سواء كانت تلك الجماعة هي القبيلة أو الأفراد الذين يتشاطر معهم الأرض والهموم والقضايا المشتركة.
بالعودة إلى الأسباب التي جعلت اسمه ذائعا، فيرتبط ذلك بالوجود السعودي الذي قدم إلى المهرة، وتمركز فيها، محاولا تحقيق أطماع قديمة جديدة، وكان هذا سببا في بروز شخصية الرجل الذي تصدى لأجندة الرياض، مستفيدا من خبرته في الحياة، ومكانته الاجتماعية والقبلية، وشخصيته القيادية ليبرز كرجل أول يلتف الناس حوله، وهم واثقون من قيادته وحنكته وصدقه.
كان ذلك دافعا لنا لمعرفة الرجل عن قرب، خاصة مع ارتفاع وتيرة شيطنته من قبل الإعلام السعودي الذي سعى للإساءة إليه، عندما وجده حجرة عثرة في طريق توغله في محافظة المهرة، رافضا كل العروض التي قدمتها له الرياض ليصبح عاملا معها، ومنفذا لأجندتها.
السفر نحو المهرة
كان السفر طويلا للوصول إلى محافظة المهرة التي تحتل مكانة خاصة في قلب الحريزي، باعتبارها مسقط رأسه، والمكان الذي تشكلت فيه شخصيته، وتنتمي لها قبيلته، وكانت المحطة الأولى مديرية شحن الحدودية مع سلطنة عمان، وهي مديرية صحراوية، يقع فيها المنفذ البري الذي تسعى السعودية بكل قوتها للسيطرة عليه.
وصلتُ مديرية شحن في منتصف النهار، مع آذان صلاة الظهر، وهي فترة تعد وقت الذروة بالنسبة لليمنيين، حيث يهرع الجميع لتناول وجبة الغداء، والتهيؤ لوقت مضغ القات، كعادة سلوكية يومية.
بعد مسافة من منفذ شحن التقيتُ بأحد الشباب من أبناء المهرة، وذهبنا سويا إلى مطعم شعبي تناولنا فيه وجبة الغداء، وكانت تلك الوجبة الأولى بعد أكثر من أربع سنوات قضيتها خارج اليمن، وتخبرك شوارع شحن ومحلاتها البسيطة، وحركة الناس فيها عن وضع اليمن الذي يعيش حربا مفتوحة تشنها السعودية والإمارات.
أناس يتحركون بكل أريحية، ويعملون دون تنسيق لتحقيق غاية واحد لكل واحد منهم، وهي العيش بأمان وكسب الرزق، وجميعم ينتمون لمختلف محافظات اليمن الكبير، فمالك المطعم ينتمي لمحافظة إب، والعمال فيه يتوزعون على محافظات تعز والمحويت والحديدة، وسائق التاكسي أحد أبناء الضالع، وهناك في الوجهة الأخرى من الشارع محلات تجارية يديرها مواطنون من حضرموت ويافع وأبين.
كان ذلك لافتا للانتباه، هنا تختفي كل شعارات المناطقية، ويحضر اليمن الكبير بكل أبنائه، وتلك ميزة لا زالت المهرة محافظة عليها، واكتسبت بذلك لقب "اليمن الأصغر أو اليمن الصغرى"، خاصة مع ارتفاع الممارسات المناطقية التي عاشتها غالبية مدن جنوب اليمن بعد أيام من تواجد السعودية والإمارات فيها.
صخرة ضخمة تقع قرب منفذ شحن تحول محيطها إلى مزار يومي
تحت جرف صغير خارج مديرية شحن، انتظرت مع السائق الشاب من أبناء المهرة وصول سيارة ستقلنا إلى المكان الذي يتواجد فيه الشيخ علي الحريزي، بعد أن جرى تحديد موعد مسبق للقائه زمانا ومكانا.
قبل مغيب الشمس بلحظات انطلقت بنا سيارة من نوع صالون يتواجد فيها الشيخ الشاب عبود بن هبود قمصيت، وهو رجل أعمال طموح، ووجاهة اجتماعية معروفة لدى أبناء المهرة، ولمع اسمه كثيرا مع الأحداث التي عاشتها المهرة مؤخرا، وكان له دور كبير في تنظيم الاعتصامات المناهضة للوجود السعودي في المهرة، ويعمل حاليا نائبا لرئيس لجنة الاعتصام السلمي.
بات الوقت ليلا، والظلام يلف المكان، والسيارة التي كنا فيها تقطع كيلومترات طويلة، ومن أمامها وخلفها توجد ما يصل إلى أكثر من عشرين سيارة مرافقة لها، وهي عبارة عن أطقم من نوع لاند كروزر، وتعد النموذج المفضل للسيارة التي يعشقها سكان تلك المناطق.
كان سائقو تلك الأطقم شبابا في العشرينيات، قليل منهم من يمضغ القات، والأغلب لا يرونه جيدا، أما عن قيادتهم فكانت نوعا من الجنون، فالظلام الدامس يلف المكان، والأجواء مفتوحة، وحركة السيارات السريعة تخلف كتلا ضخمة من الغبار، وبالكاد تلمح السيارة التي قبلك أو بعدك، وتشعر خلالها وكأنك في مضمار سباق مفتوح، وتمضي في خط مستقيم إلى اللانهاية، ويخيل إليك وقتها أنك تسافر في طريق بين جبلين مرتفعين، بسبب كتل الغبار المرتفعة.
الطريقة التي كان يقود فيها هؤلاء الشبان ليلا، تؤكد لك مدى خبرتهم في المكان الذي يقودون فيه، فالوقت ليلا، والطريق تقع في صحراء مفتوحة، ولا أثر فيها لأي خط إسفلتي، ولا علامات مرورية ترشدك للطريق الصحيح، أو تحذرك من الانحراف إلى وجهة خاطئة، وتلك هي مكامن القوة التي يمتاز بها هؤلاء، وهم يمضون في أرضهم، ويعرفونها كما تعرفهم.
أكثر من ساعتين حتى وصلنا المكان الذي يتواجد فيه الشيخ علي سالم الحريزي، بدا من بعيد عبارة عن بقعة مضيئة وسط صحراء مظلمة مقفرة، ليس فيها سوى الرمل على الأرض، والهواء والسماء، وأفق مفتوح ليس له حد.
"لقد وصلنا أخيرا"، همستُ ذلك في نفسي، وأنا أترجل من السيارة، محاولا لفلفة جسدي، بعد الاهتزازات الجانبية التي تعرضتُ لها طوال الرحلة داخل السيارة، كان الكلام الذي سمعته من حولي هو عبارات الترحيب باللغة البدوية العتيقة.
"لقد وصل ضيوف الشيخ"، هكذا تبادلوا الكلام، وكان المستقبلون شبابا يتواجدون في المكان، وتلمح في حديثهم حفاوة الترحيب وأصالة القبيلة، وفي وجوههم ترى تأثير المكان عليهم، وكيف أكسبهم رجولة وفتوة، والجميع يشعرك بأنك جزءا منهم، وليس رجلا غريبا، بل وكأنك قد قابلته من قبل.
منزل متنقل يقيم فيه الشيخ الحريزي بالصحراء
المكان الذي وصلنا إليه عبارة عن اثنتين من الكونتيرات (منزل متنقل)، تقع واحدة بجوار الأخرى، وتضاءان من مولد كهربائي، يبدد صوته صمت الأجواء، فيبدو المكان في مجمله من تلك الإضاءة وكأنه دائرة ضوء وسط حلقة كبيرة من الظلام.
تمثل تلك الكونتيرات المنزل السفري الذي يستخدمه الشيخ علي سالم الحريزي كمكان متنقل وسط الصحراء، حيث تختفي هناك تغطية الهاتف الجوال، وتشعر بذاتك معزولة عن العالم، وكأنك تعيش في القرن العاشر الميلادي، وكان السؤال الذي يدور في رأسي حينها: ما الذي يجبر هذا الرجل على العيش في هذه البقعة المقطوعة عن العالم؟.
في مجلس الحريزي
ها أنا أخيرا في مجلس الشيخ علي سالم الحريزي، وأصافحه للمرة الأولى، داخل واحدة من تلك الكونتيرات، تبدو الغرفة كمجلس خاص يستقبل فيها ضيوفه، مفروشة بالسجاد، وتتوزع فيها "المداكي"، وعلى نافذتها في اليمين والشمال ستارة تحجب الضوء، وفي واجهتها مكيف هوائي لتلطيف الجو، إنها تبدو كما لو أنك في عمارة سكنية، وليس في الصحراء.
شاءت المصادفة أن يكون مكاني في الجهة المقابلة لجلوس الشيخ الحريزي، ومثل ذلك فرصة أفضل للحديث معه والذي ابتديناه في الكلام عن السفر والوصول للمكان، ولم يمر سوى وقت قليل حتى أقبل أتباعه بالعشاء، وكان لزاما أن نتناوله، ثم نعود لاستئناف جلسة القات، ومواصلة السمر.
يشعرك الرجل في حديثه عن مدى إلمامه بتطورات الأحداث في اليمن، وتقييمه للمشهد العام الذي تعيشه البلاد، وعمق إدراكه لغايات التواجد السعودي، ومدى إيمانه بقضيته التي يخلص لها ويؤمن بها.
من هو الحريزي؟
إنه رجل بدوي عادي، كما يصف نفسه، فهو ليس شخصية سياسية، إذ لا ينتمي لأي حزب سياسي، ولا لأي جماعة دينية أو مذهبية، وتغلب عليه قيم الانتماء لمحافظته بشكل خاص ولليمن بشكل عام أكثر من أي شيء آخر، لكن الملامح التي يصعب عليها إخفاؤها هي انتماؤه للمؤسسة العسكرية، وتدرجه فيها، والتي أكسبته مهابة وحضورا قياديا، إضافة إلى انتمائه القبلي الذي أضاف بُعدا رجوليا في صفاته الذاتية.
تلقى تعليمه المدرسي حتى الإعدادية في مديرية حوف، وهي المديرية الأجمل في محافظة المهرة، ثم التحق بالكلية العسكرية في منطقة صلاح الدين بمحافظة عدن خلال الفترة (1976- 1978)، وتخرج منها ليصبح ضابطا في الجيش التابع لدولة اليمن في شطرها الجنوبي آنذاك.
وبسبب الأحداث التي عاشها شطرا اليمن قبل تحقيق الوحدة في الـ22 من مايو 1990م، فقد انخرط الحريزي كضابط شاب في معارك دولته العسكرية التي كانت تندلع بين الشمال والجنوب إبان فترة السبعينيات والثمانينيات، ويتحدث عن نفسه بأنه شارك في تلك الحرب في العام 1979م، وقاتل في محور بيحان بمحافظة شبوة ضد جيش الشطر الشمالي، وتمكنوا من السيطرة واحتلال منطقة الحجلة وحريب التي كانت ضمن نفوذ وإدارة حكومة شمال اليمن.
كان حينها محسوبا على جناح الرئيس السابق علي ناصر محمد، الذي كان يخوض صراعا مع الجناح الآخر لنظام الحكم في جنوب اليمن، ولم تمضِ سوى فترة بسيطة حتى جرى تحويله إلى شعبة الاستخبارات في مديرية حوف، ومكث فيها حتى وقعت أحداث المجزرة الدامية بمدينة عدن في الـ13 من يناير 1986م، واضطره ذلك للنزوح مع علي ناصر محمد إلى صنعاء، وظل فيها بمعية العديد من الضباط أبرزهم عبد ربه منصور هادي، وعبد الله علي عليوه، حتى تحقيق الوحدة اليمنية.
خلال حرب صيف 1994م التي اندلعت بعد إعلان علي سالم البيض الانفصال تولى الضابط عبد ربه منصور هادي منصب وزير الدفاع، وأصدر هادي بحكم منصبه قرارا بتعيين علي سالم الحريزي قائدا لحرس الحدود في محافظة المهرة، وكان ذلك تكريما لجهوده، وتأكيدا لمتانة العلاقة الشخصية التي ارتبط بها الاثنان، وهما يخوضان العديد من محطات النضال قبيل تحقيق الوحدة وبعدها.
لبن الإبل المهرية.. كان أحد المشروبات التي قدمت خلال الزيارة
يشير الحريزي في حديثه إلى أن علاقته بالرئيس عبد ربه منصور هادي يسودها الاحترام، فقد ظلا على تواصل مستمر عندما كان هادي نائبا لصالح، وكان يزوره باستمرار في منزله بصنعاء، أو بعد تعيينه رئيسا للجمهورية.
يقول: "علاقتي بهادي ممتازة، وهو الرئيس الشرعي رغم الملاحظات الكثيرة عليه، وكنا نتمنى أن يكون أكثر حزما أمام ما تفعله السعودية والإمارات".
الجدير بالذكر هنا أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح أصدر في العام 2007 م قرارا بتعيين الحريزي وكيلا لمحافظة المهرة لشؤون الصحراء، بالإضافة لاحتفاظه بمنصبه العسكري.
وهنا طرأ سؤال طرحته عليه، إذا كانت علاقتك بالرئيس هادي بهذا الوضع الجيد، فما الذي دفعه لإقالتك من منصبك؟
كان هذا السؤال بمثابة باب جديد للحديث، وكنتُ أرقب تقاسيم وجهه مع كل قضية يتحدث عنها، أما أصابع قدميه فهي في حركة مستمرة لا تتوقف، خاصة عندما يصمت لبرهة، ويستجمع الكلام، ويعود بالذاكرة إلى سنوات طويلة من الأحداث والمنعطفات.
يواصل حديثه وهو يجيب عن سؤالي بأن صدور قرار إقالته من الرئيس هادي جاء بعد اعتراضه على الوجود السعودي في المهرة.
ويروي بأنه قبل إقالته بأربعة أشهر كان على تواصل مع الرئيس هادي، وطلب منه إقالته في حال كانت السعودية تمارس ضغوطها عليه، لكنه اقترح عليه عدم إقالة مدير أمن المحافظة اللواء أحمد قحطان.
يكشف الحريزي أن قائد القوات السعودية في اليمن الأمير فهد بن تركي، تواصل معه أكثر من مرة، وطلب منه الحضور إلى الرياض، "لكنني رفضتُ طلبه، وبعد هذا طلبوا من الرئيس هادي إقالتي".
ويستذكر هنا أن الرئيس هادي عندما زار محافظة المهرة في أكتوبر من العام 2018 م بصحبة السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر بعد أشهر من إقالته من منصبه كوكيل للمحافظة طلب هادي لقاءه، ويتحدث بأن هادي كان يشعر بالحياء منه، "كان مستحيا باعتباري أحد زملائه، لكني تفهمت الوضع الذي يعيشه هادي وهو يقيم في الرياض".
ويكشف في ثنايا حديثه أن الرئيس هادي أرسل له رسالة بأنه لا يعلم ما تفعله السعودية في المهرة، وقال إنه لا يستطيع أن يفعل لنا شيئا، وأنه هو نفسه مطرود من عدن، وأكدتُ له بأن المهرة ستكون عضد الشرعية وبإمكانه أن يأتي للمهرة ويدير الشرعية من المحافظة.
واحدة من عدد كبير من الإبل يملكها الحريزي
كان حديثه كافيا للإيحاء بالدور السعودي الضاغط على الرئيس هادي، واستخدام الرياض له في النيل من كل الرجال الذي يعارضون مشروعها في اليمن، ووصل الأمر حد مطالبة الرئيس هادي له بسحب أول تصريح تلفزيوني له لقناة الجزيرة بعد بثه بخمس دقائق، والذي أعرب فيه عن رفضه لعسكرة المهرة، منتقدا تصرفات القوات السعودية في المحافظة.
يواصل حديثه معلقا: "لذلك نحن نقدر وضع الرئيس هادي، لكن نحن نريد من الرئيس ألا يعطي شرعية لأي مشروع يطعن في سيادتنا، وعندما توجد حكومة يمنية قوية تضمن سيادة اليمن ويكون وضعها أقوى بدلا عن هذه الحكومة، حينها يمكن التفاهم مع الجانب السعودي عن أي مشاريع لهم في اليمن من موقع قوة وندية وبما يضمن السيادة اليمنية، وهذا ما نريده حاليا".
ويضيف بثقة قائلا: "أي تمرير لأي مشروع للسعودية في الظرف الراهن في المهرة فلن نقبله، وبالتالي السعودية ستقول إن أهل المهرة خرجوا عن الشرعية وستقدم مبررها في قتالنا واستهدافنا".
العلاقة مع السعودية
كان الحديث عن السعودية من أكثر المحاور التي استغرق الحديث فيها وقتا طويلا، وكشف فيه الحريزي عن شخصية يمنية من طراز فريد، لقد عرضت الرياض العديد من المغريات له مقابل التخلي عن نضاله في مناوأتها، ورفض كل ذلك مفضلا الانحياز لما يعتبرها القضية الوطنية العادلة التي يناضل من أجلها، رغم علاقته الشخصية القوية بقيادات سعودية رفيعة ارتبط معها بعلاقات صداقة أبرزها الأمير أحمد بن عبد العزيز.
ويستشهد بأحد المواقف قائلا إن وساطة قادتها شخصيات موالية للسعودية بعد صدور تقرير حقوق الإنسان منتصف العام 2018 الذي كشف ممارسات السعودية في المهرة، وطلبت منه الالتقاء بالجانب السعودي، لكني رفضت ذلك، وأحلت طلبهم للجنة الاعتصام، ويؤكد بأن ذلك هو من الأساليب التي تسلكها السعودية، فقد أرادوا من لقائي بهم إرسال رسالة لبقية الشخصيات الاجتماعية في المهرة بأن الحريزي تصالح مع السعودية، مضيفا: "ليس لدينا أي خطوط رجعة، ولن نستسلم ولن نسلم لهم وسندافع عن أنفسنا أما السعودية لديها خطوط رجعة".
أما الموقف الآخر الذي يذكره فيتعلق بصدور مذكرة اعتقال من الجانب السعودي بحقه. يقول: "عندما صدرت مذكرة الاعتقال ضدي كانوا يعتقدون أن القوات اليمنية التابعة لهم ستلقي القبض عليّ أو أني سأهرب إلى سلطنة عمان، وتحديتهم أن ينزلوا في الغيضة، وخرج المالكي ناطق التحالف لاحقا ينفي إصدارهم لأمر اعتقالي وقال إن ما جرى ليس سوى خلاف بين اليمنيين مع بعضهم البعض، وهذا الكلام لا ينطلي على أحد".
الساخر في الأمر أن مذكرة الاعتقال التي صدرت ضد الحريزي من الجانب السعودي وردت في الفقرة الثانية فيه جملة تتهمه بأنه "معارض لطريق أمني لإعادة إعمار اليمن".
ويشرح الحريزي أبعاد تلك الجملة قائلا إن الطريق الأمني المقصود يقع في الربع الخالي بين سلطنة عمان واليمن والسعودية، فما هي العلاقة بين إعمار اليمن والطريق في الربع الخالي خاصة أن هناك طرقا أخرى كمنفذ الوديعة والموانئ والجو عبر المطار، وهذا كله غش وكذب ولايوجد أي إعمار.
الشيخ الحريزي مع واحدة من الإبل التي يملكها
كانت الصلابة التي ظهرت في حديثه صادمة بالنسبة لي، فالرجل كان بإمكانه الانخراط مع السعودية وأجندتها والعمل معها، والحصول على ما يريد من المال والمنصب كما فعل غيره للأسف، لكنه يرفض كل ذلك، ويجاهر بموقفه الواضح، وكل يوم يبدو أكثر ثباتا وعزيمة في مواجهتها.
سألته: هل تتوقعون مواجهتكم من قبل السعودية وقتالكم؟ خاصة وأنك تقطن في مكان معزول كهذا، الأمر الذي يجعلك عرضة لاستهداف الرياض؟
يتحدث عن نفسه بأنه لم يذهب للصحراء والبادية بهذا الحضور إلا بعد مقتل جمال خاشقجي، لأنه غير الموازين وقلبها، وفق تعبيره، ويضيف قائلا: "أنا رجل معروف، ولدي تواصل مع الأمريكيين والبريطانيين والألمان وأظهر في وسائل الإعلام، وأنا في الربع الأخير من عمري، وأولادي كبار، وأريد أدخل التأريخ مثل خاشقجي، وبالتالي أي استهداف لي من قبلهم أو قتلي فهو شرف عظيم".
يواصل حديثه بالقول: "اذا قاتلونا السعوديين فسنقاتلهم".
بادرتُ بسؤاله: أنت تؤمن بالقضية التي تناضل لأجلها، لكن بمثابتك كزعيم في المهرة ضد الوجود السعودي هل تشعر أنك تستند إلى ناس أو مجتمع سيظل وفيا لك حتى اللحظة الأخيرة ولن تتعرض للخذلان؟
كان رده باللهجة المحلية: "آفا عليك يا رجال".. "المهرة لا يخذلون أحدا، رجال المهرة فتحوا الإسكندرية بمصر تحت قيادة عمرو بن العاص وكانوا مثالا للرجال الأقوياء الأشداء، والمهريون سيهزمون السعودية ومعهم كل اليمنيين، مهما ضحينا فلا يوجد عندنا تراجع أبدا".
يتحدث عن قبائل المهرة التي يعتز بالانتماء لها، ويصفها بأنها متماسكة، وجاهزة للقتال والتضحية، مؤكدا وجود خبرة طويلة لديهم في التعامل مع السعودية، مستبعدا أن تلجأ السعودية لقتالهم، لكنه يؤكد بأنهم جاهزون لمختلف الخيارات، معتبرا أن تمكن السعودية والإمارات من السيطرة على المهرة فسيكون ذلك تكرارا لما جرى في عدن، ويعلق بالقول: "ولهذا سأقاتل وبندقي معي، ولن يصبح الوضع في المهرة كما هو في عدن اليوم".
يؤمن الحريزي ولديه القناعة كما يقول عن نفسه بأنه غير مطلع على مبادئ حقوق الإنسان، فهي قضية حديثة بالنسبة له، لكن يؤكد بأنه يفهم عندما يأتي محتل، في إشارة للسعودية، ويعطل عمل المطار ومؤسسات الدولة ونهب الأموال العامة وطرد الصيادين وقتل المتظاهرين فهذا يعد انتهاكا لحقوق الإنسان.
الولاء لقطر وإيران
يسخر الحريزي كثيرا من مجمل التهم التي يروج لها الإعلام السعودي عنه، من قبيل اتهامه بالعمالة لقطر وإيران والعمل مع الحوثيين، ويرى أن هذا الأمر بدأ من داخل المهرة، وأن الاستخبارات السعودية وعملائها المحليين يتعاملون مع أي جهة أو شخص يعارض أخطاء السعودية بأنهم إيرانيون أو قطريون وغيرها من الاتهامات، بينما هم الخونة، حد تعبيره.
ويرى أن التدخل السعودي في اليمن هو من أدى لتقوية الحوثيين، وأن الحوثي أسقط العاصمة صنعاء بدعم من السعودية نفسها، ولو ترك الأمر لليمنيين من وجهة نظره لتمكنوا من حل خلافاتهم، كما يؤكد.
يقول: "يعتبرنا البعض بأننا عملاء إيران وقطر وأننا نتلقى التمويل منها"، ويتساءل: إذا كان للسعودية مشكلة مع قطر فما دواعي إقحامنا في هذا الأمر، ويقول إن الحوثيين أصبحوا قوة على الأرض، ويتعامل معهم العالم، وبات البعض ينظر إلى الحوثيين باعتبارهم قوة منظمة أفضل من الشرعية، وهذا لم يكن له أن يتحقق لولا سياسة التحالف التي قضت على كل مؤسسات الشرعية، والدليل ما جرى في عدن عقب تحريرها.
وتلك كانت صفة أخرى عن الحريزي يجهلها الكثير، واستغلها البعض في اتهامه بالعمل مع الحوثيين، فالحريزي يرى في جماعة الحوثي نموذجا للصمود في وجه السعودية وتحالفها، وينظر لهذا الأمر من زاويته كرجل قبلي مؤمن بأن الموقف الراهن يستدعي المثابرة، وبالتالي فنظرته لما يفعله الحوثي تنطلق من زاوية قدرة الحوثيين أنفسهم على المواجهة وعدم الانكسار.
يقول معلقا: " إذا احتل الحوثيون محافظتي وتجاوزوا الشرعية، فسأدافع أنا عن الشرعية، لكن لا يوجد عندنا حوثي، ولا أعمل من أجل إخراج قوات التحالف وتمكين الحوثي، والتحالف هو من يعمل ضد الشرعية، وهو من أجهز عليها سواء في المهرة أو الجنوب بشكل عام، وهو من طرد هادي من عدن مثلما طرده الحوثيون من صنعاء".
يستغرب في حديثه حجم التلفيق الذي مارسته ضده قنوات ووسائل إعلام تابعة للسعودية والإمارات، ونشر إحدى القنوات صورا مزيفة له بأنه جرى القبض عليه متلبسا في تهريب أسلحة للحوثيين، ويرى بأن هؤلاء باتوا متماهين مع الدور الإماراتي، وفرطوا بالسيادة اليمنية التي يعتبرها خطا أحمر، ورفعها شعارا له في نضاله بالمهرة، كاشفا عن وجود مبالغ مالية تصرف لشراء الولاءات ومحاولة التأثير على الناس في المهرة لكي لا يعارضوا الوجود السعودي.
ويرى أن استهدافه من الإعلام الممول من السعودية كان ردا على عدم تواطؤه مع أجندتها، قائلا: "ليس لدينا مشكلة مع السعودية إذا كانت ستواجه إيران، فنحن أحق بالوقوف معها والدفاع عن الحرمين، لكن على السعودية أن تأتي للأمر في اليمن وما تريد فعله من الباب الصحيح، وليس كما يجري حاليا وتتعامل مع الشعب اليمني كقطيع من الأغنام".
ومن مجمل ما استشفيته من أقواله أنه يؤمن بمبدأ المحاسبة، وأهمية تفعيله لمحاكمة ومحاسبة من تسبب باسالة دماء اليمنيين، سواء كان الحوثي أو الشرعية، قائلا إن كل مؤسسات الشرعية الأمنية والعسكرية والإدارية أجهزت عليها قوات التحالف منذ اليوم الأول لوصولها المهرة.
حكايات الرجل تخبرك بأنه يكره الانجذاب للباطل، ويرى بأن التدمير الذاتي للحقيقة يبدأ عندما يسلك الفرد نحو الوجهة الخطأ وهو يعلم بذلك، لهذا كله بإمكانك أن تستكشف شخصية الحريزي من جلسة واحدة، حيث يضعك أمام كل التفاصيل بلا مواربة، فليس لديه ما يخفيه.
يوم مشمس في الصحراء
اقترب موعد صلاة الفجر، وكان ذلك إيذانا بحلول الصلاة، واقتراب موعد النوم، ومن أجل التجهز للصلاة، كنتُ محتاجا للوضوء، أحضر لي أحد الأشخاص إناء من الماء، وطلب مني الذهاب بعيدا في الصحراء وقضاء الحاجة ثم العودة، إنها حقا حياة البداوة التي تشعر بمتعتها لاحقا.
الساعة العاشرة صباحا كنا على موعد مع يوم جديد في الصحراء، لقد رأيت المكان الذي وصلتُ إليه ليلا لأول مرة في نور الشمس.
مساحة شاسعة في الصحراء، تكسوها الحشائش الخضراء التي نبتت بفعل إعصار لبان الذي ضرب المهرة في العام 2018م وحول الصحراء من تراب رملي إلى واحة خضراء تبعث على السكينة والهدوء والاستمتاع.
على مائدة الإفطار وضع أحدهم جفنة كبيرة لحليب الإبل الطازج، وهي المرة الأولى التي أتذوق فيها ذلك الحليب، وتم حلبه من الإبل التي يملكها الشيخ الحريزي، وتتواجد في المكان الذي يرابط فيه، ويرتبط معها بعلاقة حب وشغف، تنبع من سلوك البدوي الذي يرى في الإبل جزءا من حياته، وأثمن ما يملك.
وفي رحلة حول المكان طاف بنا الشيخ مع مرافقيه على مراعي الإبل التي يملكها، وتصل إلى حوالي أربعين من الأبل ذكورا وإناثا، وهي من الإبل المهرية الأصيلة، ويحفظ أسماء أمهاتها وأبائها، ويستطيع التمييز بينها، رغم واحدية شكلها، ويقضي وقتا طويلا من حياته بالقرب منها، ويجد في ذلك متعة كبيرة، وسلوكا يعد جزء أساسيا من حياته.
أدى إعصار لبان لنمو الحشائش من جديد في الصحراء
مع قرب الظهيرة بدأ المشايخ والأفراد في التدفق والقدوم إلى مكان سكن الحريزي، وكلٌّ له قضيته ومطالبه، ويوحي الأمر بمدى المكانة التي يتمتع بها الرجل، باعتباره مرجعا قبليا وقائدا عسكريا وشخصية اجتماعية.
وقبيل تناول وجبة الغداء كان الرجل قد قابل أكثر من عشر شخصيات من مشايخ المهرة مع مرافقيهم، وجلس الجميع يتحدثون عن مجمل القضايا التي تواجههم، تارة باللغة العربية التي نفهمها، وتارة أخرى باللغة المهرية التي نجهل معناها، ولا تلمسها سوى في تعابير وجوههم.
ورغم ذلك العدد الكبير من الشخصيات التي تزوره بمختلف مواقعها الاجتماعية، يحتفظ الحريزي بذاكرة مثالية لكل هؤلاء الأفراد، ويعطيك نبذة عن كل واحد منهم، ومواقفه الطريفة أو أدواره في الانخراط بلجنة الاعتصام والاعتصامات والأنشطة التي نظمتها، بينما ينظر إليه أبناء المهرة باعتباره جنرالا عسكريا أنجبته المهرة وتحتاجه في ظروفها الراهنة.
كان المشهد يبعث على الحيوية، فقد تجمع الجميع في دائرة واحدة، جاثمين على ركبهم، يتوسطهم الشيخ الحريزي، وأصبح الأمر أكثر دهشة عندما انبرى اثنان من الشباب في ترديد قصائد شعرية ألقوها في مهرجانات الاعتصامات أو نظموها وصارت شائعة، وألقى أحدهم عدة قصائد تعبر عن الرفض للوجود السعودي ووحدة أبناء المهرة، ومثله فعل الآخر، لكنه ألقى قصيدة مختلفة ومثيرة للدهشة والإبداع، حيث تتألف بيت القصيدة من شطرين الأول يسرده باللغة العربية، والشطر الثاني باللغة المهرية.
أما الحريزي نفسه فقد تحدث أيضا وقتذاك عن العديد من المواقف، من بينها استقباله لصحفيين أجانب بينهم صحفية بريطانية ظلت في ذات المكان لعدة أيام، ولا زالت على تواصل مستمر معه.
بعد تناول وجبة الغداء، حان وقت الرحيل من تلك الصحراء التي أصبحت تعرف شعبيا بأبيار علي نسبة للشيخ علي سالم الحريزي نفسه، وودعناه على أمل اللقاء به مجددا، وغادرت المكان محتفظا بذكريات لاتنسى، عن رجل يجهل هويته الكثير من اليمنيين، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يخلد اسمه في الذاكرة اليمنية، وأن يحظى بشرف النضال الوطني -كما يتحدث عن نفسه- في لحظة يعيش اليمن فيها انكسارا تاريخيا، وأزمة قيادة، وتكالب عليه الأعداء الذين جاؤوا بثوب الأصدقاء.