[ النفوذ والتدخل السعودي في اليمن بدأ منذ نشأة الدولة السعودية الثالثة ]
أعاد الموقف السعودي من أزمة جزيرة سقطرى التي افتعلتها دولة الإمارات بمحاولتها احتلال الجزيرة، أعاد للأذهان ملامح النفوذ والتدخل السعودي في اليمن، والثوابت التي يرتكز عليها هذا النفوذ، والتي من أهمها أن أي اعتداء على سيادة اليمن فإنه يمثل -قبل ذلك- اعتداء على السعودية وسيادتها، كون اليمن حديقة خلفية للسعودية، وهو ما لم تحسب حسابه دولة الإمارات في مساعيها لاحتلال أجزاء من اليمن.
ورغم حالة المد والجزر التي شهدتها العلاقات اليمنية السعودية، خلال مراحل زمنية متفرقة منذ نشأة الدولة السعودية الثالثة في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، لكن أصبح الثابت الوحيد في مسار هذه العلاقات هو تمكن السعودية من فرض هيمنتها على اليمن والانفراد بالملف اليمني، بدون ترك أي فرصة لأي قوة أخرى بامتلاك ولو مساحة محدودة للمناورة، بما في ذلك إيران، التي تمثل الداعم الرئيسي لجماعة الحوثيين، لكنها لا تستطيع فرض وجودها بشكل علني وقوي في اليمن، كما هو الحال في العراق وسوريا.
- الجوار القلق
ورغم أن ظهور الدولة السعودية الحديثة تزامن مع الظهور التدريجي للدولة اليمنية الحديثة أيضا، بما من شأنه صياغة نوع من الندية في العلاقة بين الدولتين، إلا أن هناك العديد من العوامل التي مكنت السعودية من الهيمنة التدريجية على الملف اليمني، وضبط إيقاع مختلف الأزمات اليمنية بما يتناسب مع ما يريده حكام الرياض، وظل الهاجس الأمني واختلاف طبيعة النظام السياسي في اليمن عن النظام السياسي في السعودية أبرز عاملين رسمت على أساسهما عائلة آل سعود سياستها في اليمن، وعلى ضوئهما توجه مسار الأحداث والأزمات اليمنية إلى الوجهة التي تريدها المملكة.
وإذا كانت بعض المسائل، مثل القومية والجمهورية والثورة والديمقراطية والوحدة، قد أثارت مخاوف السعودية من انعكاسات الحراك السياسي في اليمن على مواطنيها وعلى طبيعة النظام السياسي فيها، فإن التطورات المختلفة التي شهدتها السعودية منذ نشأتها قد أثرت أيضا على اليمن، مثل الدعوة الوهابية والطفرة النفطية وحرب الخليج الثانية والصراع الإقليمي بين إيران السعودية، وأخيرا الموقف السعودي من ثورات الربيع العربي.
نجحت السعودية في اقتناص مختلف الفرص للتأثير المباشر على مختلف التحولات والأزمات اليمنية، ورغم أنها نجحت في بعضها وفشلت في البعض الآخر، لكنها حرصت على تعزيز نفوذها في اليمن، ليس خشية من تأثير الحراك السياسي في اليمن عليها فقط، ولكن خشية أيضا من أن تتمكن دول معادية لها من إيذائها عبر اليمن التي تمثل حديقتها الخلفية، كما تفعل إيران من خلال دعمها للحوثيين، وكما فعل رئيس ليبيا الراحل معمر القذافي عندما بدأ بدعم جماعة الحوثيين وبعض القبائل اليمنية التي تقطن بالقرب من الحدود السعودية مع اليمن خلال عامي 2009 و2010.
والمقصود بالحديقة الخلفية لأي دولة: الدول الهشة والضعيفة المجاورة لدول كبرى وقوية ولها نفوذ كبير فيها، مثل أوكرانيا بالنسبة لروسيا، وغيرها، ولهذا فإن أي تدخل أجنبي فيها يعني تهديدا وإيذاء للقوى الكبرى التي لا يمكن التدخل في شؤونها الداخلية بشكل مباشر.
- الصعود الإقليمي للسعودية
قبل الحديث عن النفوذ السعودي في اليمن، فإنه يجدر بنا الحديث عن كيفية صعود السعودية لتصبح قوة إقليمية، ولها حلفاء وأعداء نتيجة لذلك، كون نفوذها الإقليمي هو الذي جعل من اليمن حديقة خلفية لها وساحة لصراعها مع قوى إقليمية منافسة لها.
برزت السعودية كقوة إقليمية مؤثرة خلال حقبة الحرب الباردة، بالإضافة إلى قوتين أخريين هما مصر والعراق، بسبب حالة الاستقطاب التي كانت سائدة حينها بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، غير أن علاقات القوة في المنطقة العربية تغيرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار الرأسمالية الغربية، فكان هذا التغير في ميزان القوى الدولية لصالح السعودية، وتغيرت بالتالي علاقات القوة في المنطقة العربية لصالح الغرب.
وبما أن العراق وإيران كانتا تدوران في فلك الاتحاد السوفييتي، فقد تم عزلهما وتطويقهما، وتشكل في مقابل ذلك محور سعودي - سوري - مصري داعم لعملية السلام في فلسطين التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، وظل ميزان القوة الجديد في المنطقة العربية مسيطرا على السياسة الإقليمية طوال عقد تسعينيات القرن الماضي وحتى هجمات 11 سبتمبر 2001.
وبعد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية المباشر في المنطقة العربية، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وإسقاطها لنظام صدام حسين في العراق وقبله نظام حركة طالبان في أفغانستان، حدث تغير كبير في ميزان القوة في المنطقة، ذلك أن إسقاط الولايات المتحدة للنظامين المذكورين كان بمثابة خدمة كبيرة قدمتها واشنطن لإيران التي برزت كقوة إقليمية بعد سقوط النظامين اللذين كانا يطوقانها من شرقها وغربها ويشكلان خطرا كبيرا عليها، ويقفا حاجز صد أمام محاولاتها توسيع دائرة نفوذها في نطاقها الإقليمي.
أصبحت إيران قوة إقليمية مؤثرة بعد أن رسخت نفوذها في لبنان والعراق وأخيرا سوريا، كما استطاعت تحريك مختلف الطوائف الشيعية في العالم العربي وجعلها تدور في فلكها، ودفعها لاستعداء السعودية ضمن صراع القوة والنفوذ بين الدولتين اللتين تسعيان لتزعم العالم الإسلامي، وأيضا خطط إيران لتصدير ثورتها الخمينية ومحاولتها الانتقام من العرب واستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي دمرها العرب أثناء حركة الفتوحات الإسلامية.
- الهيمنة على اليمن
بروز السعودية كقوة إقليمية، تستند إلى علاقة تحالف متينة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتجثو على بحار هائلة من النفط، وحكم ملكي عائلي قائم على اقتصاد قوي ومجتمع خامل سياسيا وثقافيا، مقابل ضعف الأنظمة السياسية المتعاقبة في اليمن التي عجزت عن استغلال موارد البلاد الذاتية وثروتها البشرية وموقعها الإستراتيجي، وإبقاء البلاد في حالة من الضعف، كل ذلك جعل من اليمن -تلقائيا- مجرد حديقة خلفية للسعودية مسلوبة القرار الوطني والسيادي، وغير قادرة على مخالفة الشقيقة الكبرى في كثير من السياسات والمواقف.
واللافت أن أبرز الأعداء الإقليميين للسعودية خاضوا ضدها حروبا بالوكالة في حديقتها الخلفية (اليمن)، مثل مصر (جمال عبدالناصر) وإيران (الخمينية)، والمصادفة أن مصر (عبدالناصر) كانت تشكل التهديد الأكبر للسعودية بشكل يشبه التهديد الذي تمثله إيران اليوم، وهناك وجه شبه آخر، وهو أن الصراع المباشر بين السعودية ومصر (عبدالناصر) بدأ في سوريا ثم انتقل إلى اليمن، وصراعها المباشر مع إيران بدأ في سوريا ثم انتقل إلى اليمن.
لقد كان نفوذ جمال عبدالناصر في سوريا طاغيا لدرجة أنه ضمها إليه في وحدة سرعان ما انهارت، عرفت بـ"الجمهورية العربية المتحدة"، عام 1958، ثم ازدادت المخاوف السعودية بعد سقوط النظام الملكي الحاكم في العراق وبداية الحديث عن تشكيل اتحاد ثلاثي يضم مصر وسوريا والعراق، وفي هذه الأثناء، نجحت السعودية في إسقاط الوحدة السورية المصرية من خلال مؤازرتها للهاشميين، فرد جمال عبدالناصر على السعودية بفتح جبهة حرب معها في اليمن بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962، حيث ساند الجمهوريين ضد الملكيين الإماميين المدعومين من السعودية، وانتهت حرب مصر والسعودية نتيجة العدوان الإسرائيلي على مصر عام 1967، مما اضطر عبدالناصر إلى الانسحاب بسبب هزيمة قواته أمام إسرائيل.
وبعد اندلاع ثورات الربيع العربي، سارعت إيران إلى دعم حليفها الرئيس السوري بشار الأسد لسحق الثورة الشعبية ضد نظام حكمه، بينما سارعت السعودية إلى دعم الثوار السوريين وتمكنت من كبح خطط إيران ونظام الأسد لسحق الثورة، فردت إيران على السعودية بفتح جبهة حرب في اليمن من خلال حليفتها جماعة الحوثيين، حيث دفعتها لاستفزاز السعودية بمناورات عسكرية على حدودها واستكمال الانقلاب على السلطة الشرعية في اليمن والتهديد باجتياح الأراضي السعودية، وهو ما دفع السعودية لتشكيل تحالف عسكري عربي والتدخل العسكري في اليمن لكبح التوسع الإيراني في خاصرتها الجنوبية.
- تاريخ من التدخل
بدأ التدخل السعودي في الشأن الداخلي اليمني منذ عهد الأئمة الزيديين، فبعد الانسحاب العثماني من اليمن، شهدت البلاد صراعا حادا على السلطة بين الأئمة أنفسهم، مما أدى إلى إضعاف الوضع الداخلي في البلاد، وإقدام بعض مشايخ القبائل على الانفصال عن السلطة المركزية وظهور الحركات الاستقلالية، فشجع ذلك الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود على توسيع سلطاته في الجزيرة العربية، ونشر الدعوة الوهابية في عسير وتهامة اليمنيتين، ونتج عن ذلك خروج أهلها من المذهب الزيدي والتمرد على الأئمة.
وعندما كان الإمام يحيى يحاول بسط نفوذه على المناطق الشمالية من اليمن بعد صلح "دعان" بينه وبين العثمانيين، واجه معارضة شديدة من الملك السعودي عبد العزيز آل سعود. وبعد نشوب الحرب بين الإمام يحيى والاحتلال البريطاني، والتي على إثرها استرد بعض المناطق الوسطى من البريطانيين، ردّ البريطانيون على ذلك بتسليم ميناء الحديدة للإدريسي عام 1922، لكن الإمام يحيى استعاد ميناء الحديدة من الإدريسي عام 1925، فطلب الإدريسي الحماية من ابن سعود في فبراير 1926، والذي رفض في أول الأمر ثم وافق في أكتوبر 1926.
وفي عام 1932 استطاعت السعودية إلغاء إمارة الإدريسي وإلحاق أراضي عسير وجيزان ونجران بالمملكة السعودية، فاضطر الإمام يحيى إلى خوض حرب غير متكافئة مع السعودية، بسبب جيشه البدائي، انتهت بهزيمته وفقدانه نجران وعسير وجيزان، باتفاق أبرمه مع الجانب السعودي في 20 مايو 1934، سمي بـ"معاهدة الطائف"، واعترف بنفوذ السعودية على الأراضي اليمنية في إطار المعاهدة.
وعندما اشتدت المعارضة الداخلية ضد الإمام يحيى، والتي توجت بثورة 1948 الدستورية، انزعجت السعودية جراء ذلك، وكان الملك عبد العزيز آل سعود ينصح الإمام يحيى بمعالجة أمر المعارضة خوفا من تدهور الأوضاع خارج الحدود اليمنية، لكن الثورة فشلت، وكان من أسباب فشلها وقوف بعض الدول العربية ضدها ومن بينها السعودية.
وبعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962، استاءت السعودية وبعض الدول العربية الملكية من الثورة، خشية تأثيرها عليها، ودعمت الملكيين بقوة ضد الجمهوريين خلال الحرب الأهلية بعد اندلاع الثورة خلال الفترة 1962 - 1970، بينما تدخلت مصر (عبدالناصر) لمساندة الثورة.
وفي مؤتمر الطائف المنعقد في أغسطس 1965، جمع الملك فيصل بين المشايخ الجمهوريين والملكيين، بهدف تكوين جبهة مضادة للوجود المصري في اليمن، ودعا إلى فكرة الدولة الإسلامية كحل وسط بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، لكن هذا المقترح قوبل برفض الجمهوريين، وانتهى الصراع بأن رعت السعودية مصالحة وطنية بين الجمهوريين والملكيين عام 1970، قضت بقبول الملكيين بالنظام الجمهوري مقابل استيعابهم فيه، وذلك بعد أن عجز الملكيون عن الانتصار بعد انسحاب القوات المصرية رغم استمرار الدعم السعودي لهم.
- في الجزء الثاني، الموقف السعودي من الوحدة اليمنية، وحرب صيف 1994، وثورة 11 فبراير 2011، وانقلاب الحوثيين، وملامح تدخلها في مختلف هذه المحطات، بالإضافة إلى الأدوات الرئيسية للنفوذ والتدخل في الشأن اليمني.