[ تحضيرات عديدة ونقاشات سبقت إعلان التكتل ]
ليس غريبًا محاولة بعض الأحزاب اليمنية تشكيل تحالف سياسي أسمته "التكتل المدني"، فهذا الأمر يعكس تشوهات المشهد السياسي في اليمن وفي بلدان الربيع العربي بسبب طغيان الثورات المضادة من جانب، ومن جانب آخر فهو يعكس انتهازية القوى والأحزاب السياسية اليسارية، وتأييدها لكل ما سيضر بخصمها التقليدي (الأحزاب السياسية الإسلامية)، حتى وإن كان ذلك سيؤدي إلى عودة النظام القديم بأبشع صوره، وتسميم الحياة السياسية والحزبية، والقضاء التام على ثورات الربيع العربي.
يضاف إلى ما سبق، تخلي هذه الأحزاب عن أفكارها التي كانت تصفها بالتقدمية، وقبولها التحالف مع دول كانت تصفها بالرجعية، مثل دولة الإمارات، لأنها تشاركها العداء للأحزاب والحركات الإسلامية المعتدلة.
القاسم المشترك
لعل القاسم المشترك بين الأحزاب التي يتكون منها التحالف الذي يجري الإعداد له، أنها كانت من المرحبين باجتياح مليشيات الحوثيين للعاصمة صنعاء قبل الانقلاب، بل وكانت من أبرز المبشرين بالتوسع الحوثي نكاية بحزب الإصلاح، وكانت وسائل إعلامها تصف جماعة الحوثيين بـ"الحركة الفتية"، وأحد قيادات هذه الأحزاب قال بأن جماعة الحوثيين ستدخل العاصمة صنعاء لمهمة خاصة لا تتجاوز "إجراء عملية قيصرية" وستعود، ويقصد بذلك أن مهمتها موجهة ضد قيادات حزب الإصلاح.
وبعد عملية "عاصفة الحزم" انقسم بعض هذه الأحزاب بين التأييد للسلطة الشرعية والتأييد للحوثيين، بينما اندمج البعض الآخر تماما في جماعة الحوثيين، وهو ما يعني أن التحالف المزعوم له أهداف أخرى، تتجاوز أو تخالف أبرز ما أُعلن عنه بأنه تحالف مساند للسلطة الشرعية والتحالف العربي ويعمل على إحياء دور الأحزاب، فمثل هذا الهدف لا يحتاج إلى تشكيل تحالف من أحزاب ليس لها أي وزن عسكري على الأرض، فضلًا عن انقساماتها الداخلية بين التأييد للسلطة الشرعية والتأييد للانقلابيين.
التعثر المبكر
ظهرت فكرة "التكتل المدني" قبل أكثر من عام ونصف من الآن، وهو ما يعني أن الفكرة واجهت تعثرًا مبكرًا، كونها تغريد خارج السرب، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تحالفات عسكرية تسهم بقوة في القضاء على الانقلاب الذي يهدف إلى القضاء على الأحزاب بكلها وعلى الديمقراطية والنظام الجمهوري برمته، ويعني ذلك أن المعركة أصبحت مصيرية، وتتطلب الحشد لها من مختلف فئات الشعب، والوقت ليس مناسبًا للتحالفات السياسية التي تغرد خارج السرب في زمن الحرب وتخدم الانقلاب، وتضر بنفسها أكثر مما تضر بالآخرين.
كان أول من دعا لفكرة "التكتل المدني" بعض الناشطين السياسيين والحقوقيين والإعلاميين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كتعبير عن توجهاتهم اليسارية والعلمانية، ونكاية بالإسلاميين، وبما أن هذه الدعوات اتخذت الطابع الفردي، ولم يتمكن أصحابها من تشكيل التكتل الذي يريدونه، فقد تلقفتها بعض قيادات الحزب الاشتراكي والحزب الناصري في الخارج، وعقدت اجتماعًا في العاصمة المصرية القاهرة في ديسمبر 2016 الماضي، بغرض الإعلان عن التحضير والإعداد لهذا التكتل، بينما أبدى بعض قادة الحزبين رفضهم لهذا التكتل حينها، لعدم مشاورتهم وإشراكهم في التحضير له، وأيضًا عدم علمهم بأهدافه.
لم تلقَ فكرة التكتل حينها أي صدىً إعلامي، ثم بدا وكأن التكتل ذهب طي النسيان، وأنه مجرد محاولة لاستيراد تشوهات المشهد السياسي المصري إلى اليمن، واقتباس مصطلح "التكتل المدني" من الأحزاب المصرية المتحالفة ضد الإخوان المسلمين هناك قبيل الانقلاب العسكري ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، حيث كانت تطلق على نفسها مسمى "الأحزاب المدنية" كتسمية الهدف منها إدانة الإخوان المسلمين والسلفيين كأحزاب دينية، واستثمار مصطلح "المدنية" البراق في محاولة لتوسيع شعبيتها المحدودة.
عاد التحالف المذكور مجددًا بعد مرور ثمانية أشهر تقريبًا من اجتماع القاهرة، معلنًا عن الأحزاب التي يتشكل منها التكتل -أو التحالف- من جنوب اليمن، حيث السيطرة المطلقة للقوات الإماراتية، وتتضمن تشكيلته أحزابًا إمامية وعائلية مساندة للانقلابيين، ويدعي أن الهدف منه مساندة السلطة الشرعية والتحالف العربي، وأثار ذلك التكهنات حول الأهداف الحقيقية للتحالف، وما مدى فرص نجاحه، وإلى أي مدى سيؤثر على مستقبل الحياة السياسية في اليمن.
دلالات تشكيلة التحالف
تحمل تشكيلة التحالف العديد من الدلالات، وهي دلالات في مجملها تنفي عن التحالف صفة "التكتل المدني"، وتنفي أيضًا صحة الهدف الرئيسي الذي أُعلن من أجله، وهو مساندة السلطة الشرعية والتحالف العربي ضد الانقلاب، ودلالات أخرى تؤكد بأنه مجرد أداة بيد دولة أجنبية تريد النفخ فيه لتمرر من خلاله بعض أجندتها في اليمن.
يتكون التحالف من ستة أحزاب، بعد إعلان حزب التجمع الوحدوي اليمني عدم صلته بالتحالف، وأنه فوجئ باسمه بين الأحزاب التي يتكون منها التحالف، ولاحقا قدمت اللجنة التحضيرية إيضاحا قالت فيه إن الحزب شارك في التحضير للتكتل من خلال أحد أعضائه.
والأحزاب التي يتكون منها التحالف هي: الحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب العدالة والبناء، واتحاد القوى الشعبية، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب البعث القومي.
وفيما يلي دلالات التشكيلة التي يتكون منها التحالف المذكور:
- أن التحالف استثنى أبرز حليفين قويين للسعودية في اليمن ويحاربان بشراسة ضد الانقلاب، وهما حزب الإصلاح وجناح الرئيس هادي في حزب المؤتمر.
- أن التحالف ضم في صفوفه الأحزاب التي لها عداوة تاريخية مع السعودية، خاصة الاشتراكي والناصري والبعث، وأسباب العداوة واضحة ولا داعي لذكرها هنا. أما حزب اتحاد القوى الشعبية لعائلة آل الوزير فعداوته للسعودية بسبب موقفها ضد ثورة 1948 الدستورية التي كانت ستأتي بأحد أفراد عائلة الوزير ليكون إمامًا لليمن بعد قتل الإمام يحيى حميد الدين. وبخصوص حزب العدالة والبناء لأحد أفراد عائلة آل لحوم، رغم نشأته الحديثة، إلا أن علاقة عائلة آل لحوم بالسعودية اتسمت بعداء غير ظاهر منذ ثورة 26 سبتمبر 1962، علمًا أن حزب العدالة والبناء يشارك في حكومة الشرعية من خلال القيادي عبدالعزيز جباري، والذي يشغل نائب رئيس الوزراء وزير الخدمة المدنية.
اقرأ أيضا: تكتل سياسي جديد في اليمن.. عملية إنقاذ للوضع الراهن أم تطويق للمستقبل؟
- يبدو من خلال تشكيلة التحالف، التي شملت الأحزاب التي لها عداوة تاريخية مع السعودية، واستثنت حلفاءها الرئيسيين في اليمن، بأنه أداة بيد دولة الإمارات، التي تعمل على توسيع نطاق تحالفاتها في اليمن في الفراغ الذي لم تشغله السعودية، بغرض الحفاظ على مصالحها وتمرير أجندتها، واستخدام التحالف كورقة ضغط ضد الأطراف الأخرى، بما فيها السعودية ذات النفوذ التاريخي في اليمن.
- وجود أحزاب عائلية أو إمامية في التحالف تنفي عنه صفة "التكتل المدني"، فالمدنية مناقضة للأحزاب العائلية والطائفية والمذهبية والرجعية.
- انقسام الأحزاب التي يتشكل منها التحالف بين فريق مؤيد للسلطة الشرعية والتحالف العربي وآخر مؤيد للانقلابيين داخل كل حزب، باستثناء حزب اتحاد القوى الشعبية وحزب البعث الذي بات يمثله نائف القانص (قُطر سوريا) والمؤيديْن بوضوح للانقلاب، ينفي عن التحالف الهدف الرئيسي المعلن لأجله، وهو تأييد السلطة الشرعية والتحالف العربي، كما أن هدفًا كهذا لا يحتاج إلى تحالف سياسي من أحزاب ليس لها أي وزن عسكري على الأرض.
دلالات التوقيت
هناك عدة دلالات لتوقيت الإعلان عن التحالف، فيما يلي أهمها:
- جاء الإعلان عن التحالف بعد الأزمة الخليجية-الخليجية بسبب موقف بعض دول الخليج من دولة قطر، وتراجع اهتمامات التحالف العربي بالملف اليمني من جانب، وتوسيع دولة الإمارات نطاق سيطرتها ونفوذها في اليمن من جانب آخر.
- اختفاء الأنباء والتسريبات التي كانت تتحدث عن قيام دولة الإمارات بمشاورات تهدف إلى حل سياسي للأزمة اليمنية تفضي إلى تعيين أحمد علي صالح رئيسًا للبلاد، خاصة بعد أن نُشرت بعض التفاصيل عن ذلك في مجلة فرنسية متخصصة في الاستخبارات.
- الإعلان عن التحالف جاء بعد تصريح سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة الأمريكية يوسف العتيبة، في حوار مع قناة "بي بي إس" الأمريكية، مفاده بأن بلاده (الإمارات) والسعودية تسعيان إلى قيام أنظمة علمانية في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن الإمارات هي من تدعم هذا التحالف المكون من أحزاب يسارية وعلمانية في اليمن وتقديمه كبديل عن الأحزاب الأخرى، والهدف من ذلك تأكيد الإمارات للدول الغربية بأنها صادقة في نواياها.
وأخيرًا، لعل استثناء جناح الرئيس هادي في حزب المؤتمر من التحالف، مقابل الحشد الكبير الذي يقوم به جناح المخلوع صالح في الحزب للاحتفال بمناسبة تأسيس الحزب، والذي قد يكون بإيعاز ودعم إماراتي، ربما الهدف من كل ذلك أن يعلن جناح المخلوع صالح في الحزب الانضمام إلى التحالف المذكور في وقت لاحق، ثم إجراء مصالحة سياسية برعاية إماراتية أو غيرها، على أن توكل مهمة إدارة البلاد لتحالف "التكتل المدني" العلماني، وهو التحالف الذي سيعين أحمد علي صالح لرئاسة البلاد.
ورغم أن أمرًا كهذا يبدو غير منطقي، لكن في ظل وجود أحزاب انتهازية لا تقدر عواقب الأمور، بالإضافة إلى النزق الإماراتي، فإن كل ما هو غير منطقي، لا غرابة في أن يصبح واقعًا أمام أعيننا، لاسيما وأن الشواهد السابقة تؤكد ذلك.
ما بعد الفشل
وفي حال فشل التحالف في تحقيق أي شيء، بسبب تعقيدات المرحلة وطبيعة الأوضاع في البلاد، فضلًا عن انعدام أي وزن عسكري أو شعبي للأحزاب التي يتكون منها التحالف، فإن الإمارات ستستفيد منه على الأقل في سعيها لاختراق المكونات السياسية في بعض مناطق شمال اليمن بغرض توسيع نطاق نفوذها، واستخدامه ورقة سياسية في وجه السعودية والسلطة الشرعية مثل "المجلس الانتقالي الجنوبي"، وشق صف المقاومة الشعبية في تعز، نظرًا للوجود المحدود للحزب الناصري هناك، وقد بدأت مؤشرات ذلك بالتقارب بين الناصريين وجماعة "أبو العباس" الموالية للإمارات، وحرف بوصلة الصراع هناك ضد الجيش الوطني الموالي للرئيس هادي، وضد المقاومة الشعبية التي يقودها حزب الإصلاح.
أما المستقبل السياسي للتحالف في مرحلة ما بعد الحرب، ومدى تأثيره في الحياة السياسية، فإن ذلك سيشبه وضع "مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة"، والذي شكلته نفس الأحزاب في العام 1999، باستثناء حزبي الحق والعدالة والبناء، وهو التحالف الذي كان حينها هامشيًا، وزاد من تهميشه أن المخلوع علي صالح استنسخ أكبر أحزابه وعبث به، ولم تنتعش تلك الأحزاب إلا بعد أن شكل معها حزب الإصلاح تحالف "اللقاء المشترك" عام 2003.
وبمحاولة الأحزاب التي شكلت التحالف المذكور إنهاء تحالفها تمامًا مع حزب الإصلاح، والقضاء التام على تكتل اللقاء المشترك، الذي أنعشها بعد حالة الموت السريري التي كانت تمر بها، فإنها بذلك تكون قد حكمت على نفسها بأن تعود إلى حجمها الطبيعي الذي كانت عليه أثناء تحالفها في إطار "مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة".