بعد مرور عام ونصف على تفشي جائحة فيروس كورونا "كوفيد-19″، وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي تعقد على حملات التطعيم الضخمة ضد الفيروس التي بدأت في وقت مبكر من هذا العام لوقف تفشيه؛ ما تزال دول كثيرة -ومن ضمنها دولة قطر وغيرها من دول الشرق الأوسط- تشق طريقها نحو تحقيق مناعة القطيع واستعادة نمط الحياة الطبيعي عبر حملات التطعيم الواسعة.
وبدون مناعة القطيع سيعود الفيروس إلى مساره الأصلي النشط بمجرد توقف الإجراءات والتدخلات الضرورية. كما أن تصاعد موجات السلالات المتحورة من الفيروس ستشكل عائقا إضافيا في مكافحة انتقال العدوى.
إلى أي مدى ستكون برامج التطعيم الجماعي فعالة؟
يمكن لنا فهم مدى فاعلية التطعيم الجماعي من خلال مفهوم مناعة القطيع؛ فالتطعيم الجماعي يحسن القدرة على مقاومة الفيروس؛ وبالتالي تتحقق مناعة القطيع. وفي الواقع، عندما يواجه الفيروس المزيد من الأشخاص المطعمين باللقاح تنكسر سلسلة العدوى الفيروسية ويتوقف انتشاره ويتراجع تدريجيا.
ومن الجدير بالذكر أن أولوية التطعيم يجب أن تكون للشرائح الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس للوصول لمناعة القطيع المراد تحقيقها في المناطق التي يعيشون فيها.
الطريق نحو مناعة القطيع والفرق الكبير الذي تصنعه اللقاحات
إن عدد المطعمين والمحصنين الذي يتوجب الوصول إليهم لتحقيق مناعة القطيع يعتمد على عدة عوامل؛ أولها رقم الفيروس المستنسخ المعروف باسم "آر نات" (R naught)، والذي يقيس متوسط عدد الأفراد الذين يصابون بالعدوى؛ فإذا كان رقم الفيروس المستنسخ يساوي 1، فهذا يشير إلى أن كل مصاب ينقل الفيروس لشخص واحد في المتوسط، وهو يعني استقرار الوضع الوبائي. أما في حال كان رقم الفيروس المستنسخ أعلى من 1، فذلك يدل على حدوث طفرة في الوباء والعكس صحيح.
إجراءات السلامة
يمكن تقليل رقم الفيروس المستنسخ من خلال الالتزام بإجراءات السلامة، مثل تعقيم اليدين بشكل منتظم، وارتداء القناع، والتباعد الاجتماعي، والإغلاق العام، ووضع قيود على السفر، والوصول إلى مناعة القطيع.
ويمكن الوصول لمناعة القطيع بطرق طبيعية من خلال السماح للفيروس بإصابة نسبة كبيرة من المجتمع. وعلى الرغم من أن هذه الإستراتيجية مثيرة للجدل؛ فإنها طُبقت على سبيل الاختبار في بعض البلدان مثل إنجلترا والسويد خلال الموجة الأولى من كوفيد-19 في ربيع 2020. ولكن سرعان ما استُبعدت هذه الإستراتيجية؛ حيث لم تستطع المستشفيات التعامل مع أعداد الأشخاص المصابين ممن يحتاجون لإمدادات الأكسجين والعناية المركزة، فضلا عن أن هذه الإستراتيجية يمكن أن تكون ضارة للغاية إذا سمح بها حتى في المناطق المحصنة جزئيا باللقاح، لأنها تتيح مجالا للفيروس للتحور والتطور متجنبا بذلك المناعة المكتسبة.
ويمكن الحد من رقم الفيروس المستنسخ عن طريق حملات التطعيم المكثفة، وتعتمد النسبة المئوية للأشخاص الذين يحتاجون إلى التطعيم لتحقيق مناعة القطيع على مدى قوة عدوى المرض. فعلى سبيل المثال، كانت تقديرات الحصبة وشلل الأطفال 95% و80% على التوالي. وقد أفادت معظم التقديرات الحاجة لتجاوز نسبة 65-75% من السكان المطعمين ضد الفيروس لتحقيق مناعة القطيع، إلا أنه ومع ظهور سلالات جديدة وأكثر عدوى -مثل سلالة دلتا- توجب أخذ الحذر وإعادة التقييم باستمرار. أما العامل الثاني المهم فهو حركة الناس داخل وخارج المنطقة المصابة، إذ يؤدي استمرار تطبيق قيود على الحركة في التقليل من رقم الفيروس المستنسخ.
وقد طبقت دولة قطر العديد من الإجراءات المذكورة أعلاه من خلال التباعد الاجتماعي، وفرض ارتداء الأقنعة، وتطبيق الحجر الصحي على المسافرين، والأهم من ذلك، تطعيم عدد كبير من السكان في فترة وجيزة.
كيف ستحقق دولة قطر مناعة القطيع؟
طبقت الحكومة في دولة قطر إغلاقا صارما مع إلزام أفراد المجتمع بارتداء الأقنعة، واستخدام تطبيق احتراز للهاتف الجوال لتتبع حركة الأفراد المصابين، وإجراء الفحوصات اللازمة على أعداد كبيرة. وقد أثبتت هذه الإجراءات أنها فعالة في منع انتشار الفيروس وإبقاء الجائحة تحت السيطرة. وقد شرعت دولة قطر في إطلاق حملة التطعيم مبكرا لحماية الفئات الأكثر عرضة أولا. وقد وصل عدد الجرعات المطعم بها بالفعل في قطر إلى 3.4 مليون جرعة من لقاحات فيروس كوفيد-19. ولو افترضنا أن كل شخص يحتاج إلى جرعتين من اللقاح؛ فهذا يكفي لتطعيم حوالي 54.6% من السكان، كما أن دولة قطر هي أيضا واحدة من الدول القلائل التي قامت بتطعيم المراهقين.
إلى متى ستستمر مناعة القطيع لفيروس كوفيد-19؟
إن التجارب السريرية التي أجريت مؤخرا تشير إلى أن اللقاحات آمنة وفعالة للغاية في الوقاية من أشد أنواع الفيروس تحورا، ولكن ما يزال الأمر غير واضح حول أي مدى ستستمر المناعة الوقائية، ولكن إذا كانت مدة المناعة للقاحات المشابهة لفيروسات كورونا الأخرى -مثل فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية- فإن التطعيم المتكرر كل سنتين أو 3 سنوات ضروري للحفاظ على مناعة القطيع.
وستساعدنا الدراسات الحركية للأجسام المضادة الناتجة عن التطعيم في التنبؤ الدقيق بالجداول الزمنية المتوقعة للتطعيم باللقاحات. كما أن اللقاحات التي تؤدي إلى استجابة متجانسة وموحدة في مجموعة سكانية ما توفر مناعة طويلة الأمد بشكل أفضل من اللقاحات التي تنتج استجابة غير متجانسة. ولكن إجمالا ستكون هناك حاجة إلى سقف تحصين عال جدا على مستوى العالم والتزام بالتباعد الاجتماعي وارتداء القناع لمنع الانتشار المستدام للفيروس بين السكان.
هل يعني تحقيق مناعة القطيع أن الفيروس لم يعد يمثل تهديدا؟
على الرغم من أن الوصول إلى مرحلة مناعة القطيع وقائية؛ فإنها مجرد غطاء هش للغاية، وتعتمد مدتها واستمرارها على عوامل مختلفة، أبرزها:
الاستجابة للقاح
يحدد نوع المناعة الذي يوفره اللقاح للمطعمين به الفترة التي تبقى فيها مناعة القطيع، وعامة ما ينتج اللقاح 3 أنواع من الاستجابة المناعية، وهي إنتاج الخلايا البائية أو الخلايا التائية أو كليهما. وفي حين أن الخلايا البائية تهاجم الفيروس مباشرة، تستهدف الخلايا التائية الخلايا المصابة، وبالتالي توقف إنتاج الفيروس. وبينما تشير العديد من الدراسات إلى أن اللقاحات التي تنتجها شركات "فايزر- بيونتك" (Pfizer- BioNTech) و"مودرنا" (Moderna) و"أسترازينيكا- أكسفورد" (AstraZeneca-Oxford) توفر مناعة ناتجة عن تداخل الخلايا البائية والتائية؛ فإن هناك حاجة إلى الوقت لتقييم ما إذا كان التطعيم بأي من هذه اللقاحات سيوفر مناعة طويلة الأمد.
حماية الأفراد الأكثر عرضة للتأثر
في حين أن رفض الحصول على التطعيم قد يعرض مناعة القطيع للخطر، فقد لا يتاح لبعض الأفراد التطعيم لأسباب طبية مختلفة مثل الاستجابة التحسسية للقاح. ويتمثل التحدي الأكبر بعد تحقيق مناعة القطيع في الحفاظ على سلامة الأفراد الأكثر عرضة للتأثر بالإصابة ممن لا يمكن تطعيمهم بشكل آمن وبالتالي حمايتهم من العدوى الفيروسية.
اختبار المسافرين
يشكل المسافرون تحديا محتملا أو قد يكونون تهديدا على طريق الوصول إلى مناعة القطيع، حيث إنهم ينقلون السلالات الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد-19 إلى مجتمعات يستطيع الفيروس فيها الهروب من المناعة، ويحدث ذلك غالبا من خلال الأفراد الأكثر ضعفا. من هنا، توجب على الدول فحص المسافرين القادمين إليها خاصة أولئك الذين لديهم مخاطر كبيرة بشأن التعرض للأمراض المعدية، أو القادمين من مناطق اكتشف فيها مؤخرا سلالات متحورة جديدة.
وبعد تطبيق التدابير الاحترازية للسيطرة على انتشار الفيروس على مستوى الدولة، ينبغي أن تتوفر إستراتيجية أكثر شمولا على مستوى العالم وأن تكون هي الخطوة التالية لتحقيق مناعة القطيع في جميع أنحاء العالم من أجل القضاء نهائيا على المرض.