[ مناوبة الممرضة جمان القواسمي تستمر 12 ساعة متواصلة بعيدا عن طفلها بسبب حالة الطوارئ إثر جائحة كورونا (الجزيرة) ]
يحتفل العالم في 12 مايو/أيار من كل عام باليوم العالمي للتمريض، لكن احتفال هذا العام الذي يأتي في شهر رمضان المبارك، يمرّ ثقيلا على العاملات في المجال الصحي، والسبب يعود لانتشار فيروس كورونا عالميا.
فبينما تحضّر أمٌّ طعام الإفطار لعائلتها في البيت، تقدم أخرى مصل الدواء لمريضها في المستشفى، وفي الوقت الذي تنظم أمٌ زينة رمضان مع أطفالها، تنظم أخرى فعاليات ترفيهية للمرضى الذين أنهكهم الألم وأبعدهم عن أحبابهم.
وفي يناير/كانون الثاني 1974، اختير يوم 12 مايو/أيار للاحتفال باليوم العالمي للتمريض، حيث يوافق الذكرى السنوية لميلاد فلورانس نايتينغيل، التي اشتهرت بأنها مؤسسة التمريض الحديث.
"التمريض ليست مجرد مهنة، إنها حياة لي ولغيري". هكذا أجابت جمان القواسمي (27 عاما) من القدس المحتلة حين اقترح عليها البعض ترك مهنتها للبقاء مع طفلها زهير (عامان) إثر انتشار جائحة كورونا في المدينة.
تعمل القواسمي ممرضة في مشفى "شعاريه تصيدق" بالقدس منذ خمس سنوات، وتترك طفلها في عهدة والدتها يومين في الأسبوع، بواقع 12 ساعة عمل متواصلة في كل منهما، حيث كثف المشفى –بعد كورونا- ساعات العمل في أيام معينة لتقليل تنقل العاملين بين المشفى وبيوتهم.
تعقيم لا ينتهي
تطول ساعات البعد تلك، فيجب على القواسمي أن تخوض إجراءات تعقيم طويلة عند الدخول والخروج من البيت والمشفى والسيارة، وأكثر ما يؤلمها هو تجنبها لطفلها الذي يفتح ذراعيه راكضا إليها حين تدخل البيت، فعملية التعقيم لم تنتهِ بعد.
تقول القواسمي للجزيرة نت "لا يعي طفلي ما هو كورونا، اعتاد أن يودعني راضيا وأنا أرتدي لباس التمريض الأبيض، لكنه حين تغيرت ألوان ملابسنا بسبب حالة الطوارئ يصرّ على مرافقتي، فأبرز له بطاقة التمريض ليفهم، ثم يلوح لي بكفيه الصغيرتين عبر النافذة حتى أغيب عن ناظريه".
أقبل رمضان على الممرضة وطفلها بعد فترة منهكة كانت وما زالت تحارب فيها بأكثر الأماكن عرضة لانتقال الفيروس، حيث تعيش في قلق مستمر من أن تصاب به أو تنقله لأحد.
فقد أخذت عينة قبل أيام من مريض مشكوك في إصابته بفيروس كورونا، ورفضت أن تعود إلى بيتها حتى تظهر نتيجة الفحص، وقفزت من الفرحة عندما علمت أنها سلبية.
توتر آخر أكبر استمر 14 يوما، حين خالطت القواسمي ممرضة في المشفى تبين إصابتها بالفيروس لاحقا، حيث تحتم على الأولى البقاء في الحجر المنزلي هي وطفلها أسبوعين.
كان الحجر فرصة لا تعوض للبقاء مع طفلها، لكن جزءا منه كان عصيبا بعد إصابة الابن بالإنفلونزا وخوف والدته من أن يكون كورونا هو السبب، ثم ما لبثت أن انتهت أربعة أيام من القلق بفرحة النتيجة السلبية.
لا أذان أو أجواء رمضانية
تبدأ وردية القواسمي قبل أذان المغرب بوقت قصير أو تنتهي بعده، فتجد نفسها مضطرة تارة للإفطار في المشفى بعد الأذان بوقت بسبب تستلمها العمل والترتيبات المرافقة لذلك، أو تضطر تارة أخرى إلى تأجيل إفطارها ساعة كاملة حتى تصل إلى البيت وتنتهي من التعقيم.
يُمنع الاجتماع للإفطار أو الصلاة في المشفى، فيفطر ويصلي الصائمون فرادى متفرقين، وحدثتنا القواسمي عن ذلك وهي تحضر أكلة الكفتة بالطحينة.
فقد كان دورها هو تجهيز الإفطار لزميلاتها من الممرضات اللواتي يحاولن استشعار أجواء رمضان في المشفى قدر الإمكان.
وتؤكد القواسمي أنها تضطر للاتصال بوالدتها للتأكد من رفع أذان الفجر أو المغرب، فلا مسجد داخل أو قرب المشفى الإسرائيلي الذي تعمل فيه.
تتجول القواسمي بين غرف المرضى مرتدية زيها الأصفر والأزرق وكمامة وقفازات ملازمة، ولا تنكر أن ساعات العمل المكثفة والصيام منهكان جدا، لذلك تحرص على انتقاء أوقات العمل الليلية.
تقول القواسمي إنها تبكي أحيانا من شدة التعب، حتى أنها ذات مرة اضطرت لإجراء عملية إنعاش استمرت ثلاث ساعات بعد 11 ساعة عمل متواصلة.
المكالمات المرئية هي البلسم
تضيف الممرضة الأم القواسمي "أعود إلى البيت أحيانا ولا أستطيع اللعب مع طفلي من التعب، وأثناء عملي أتحدث معه عبر مكالمة مرئية أو يرسل لي تسجيلات صوتية، وحين أشتاق له في وردية الليل أخاف أن أوقظه فأكتفي بالنظر إلى صوره وإخبار زميلاتي عن شوقنا".
المكالمات المرئية والصوتية هي وسيلة التواصل الوحيدة أيضا بين رند شرباتي (28 عاما) وطفليها هشام (10 أعوام) وليث (6 أعوام)، فهي تعمل اختصاصية نفسية في مشفى المطلع (أوغستا فكتوريا) بالقدس المحتلة منذ أربع سنوات، وكانت هذه السنة هي الأقسى بينها.
تقدم شرباتي الإرشاد النفسي لنحو 150 مريضا في قسم غسيل الكلى، ويمتد عملها لثماني ساعات على مدى خمسة أيام أسبوعيا، لكنها تتضاعف أحيانا بسبب حالة الطوارئ إثر كورونا، حتى وصلت إلى مكوثها في المشفى 14 يوما متواصلة من دون العودة إلى بيتها.
14 يوما بعيدة عن أطفالها
تقول رند شرباتي للجزيرة نت إنها كانت تهيئ طفليها منذ بداية الجائحة وتحدثهم عن الفيروس وتجهزهم لأي احتمال.
وفي صباح 9 أبريل/نيسان الماضي حدث ما كانت تخشاه، حيث سُجلت خمس إصابات بمرض كورونا في مشفى المطلع، وبقيت شرباتي فيه 14 يوما، كي لا تنقل المرض لطفليها، ولا تترك المرضى في هذا الظرف العصيب.
لم تكن فترة حجر وراحة بالنسبة لشرباتي، بل كانت على رأس عملها حتى دخل عليها شهر رمضان وهي كذلك.
لا تنكر شرباتي أن طلبات طفليها من قبيل "ماما غادري واتركي العمل لغيرك، اهربي حين ينام الجميع"، جعلتها تفكر في أخذ إجازة طويلة، ولكن شيئا ما في عيون المرضى كان يمنعها، إضافة إلى أنها كانت تريد أن يراها طفلاها نموذجا للانتماء والعطاء، ويقتديان بها مستقبلا.
"بداية رمضان كانت صعبة، كنت ألهي نفسي وأحاول نسيان أنني في رمضان بعيدة عن مائدة إفطار عائلتي، حتى أنني كنت أتجنب السحور كي لا أستذكر كيف كنت أوقظ زوجي وطفليّ"، تشرح شرباتي حالة الهروب التي اتبعتها وتبيّن أنها حرصت على تشجيع طفلها الأكبر على الصيام والصلاة برفقة والده، الذي كان وعائلته أكثر داعمين لها ولطفليها في الجائحة.
انتهى الأسبوعان بعودة شرباتي إلى بيتها، لكنها لم تستطع ضم طفليها وتخفيف شوقها، فقد كان عليها أن تلبث في حجر منزلي بعيدا عنهما حتى تظهر نتيجة فحص كورونا الخاص بها.
وتصف لحظة الإعلان عن نتيجة الفحص السلبية قائلة "ركضت إلى غرفتهم صباحا، أيقظتهم وضممتهم عن أسابيع طويلة، صرخ طفلي الصغير فرحا معلنا للجميع (ماما ما معها كورونا)".
حسب نظام المشفى ستستريح شرباتي أسبوعين من رمضان في بيتها، حيث تستغل كل دقيقة مع عائلتها، وتختم "أجواء لا توصف؛ نزين ونصنع الحلويات سويا، حتى أننا كسرنا بعد القواعد لأعوضهم، أتمنى أن أبقى بينهم مطولا، لكن مواقف كثيرة تجذبني للعمل، كجملة قالتها لي مريضة باضطراب الصمت الاختياري (أنا أثق بك، ديري بالك علينا)".