[ كان حظها أوفر مع جيلها من الملحنين المصريين (فرانس برس) ]
انطلقت نجومية الشحرورة صباح (1927 - 2014)، كمغنية، من بوابة السينما المصرية. لكنّ صوتها لاقى سوء فهم من كبار الملحنين في مصر. قدمتها المنتجة آسيا داغر في مصر عام 1945، بأول ظهور سينمائي لها، حين كان عمرها 18 عاماً. لكنّ صوتها ظلّ محلّ التباس، لتسود عنها صورة نمطية مفادها أنّها "مغنية سندوتشات". وتم استبعاد روح صوتها الصادح الجبلي، المُعتد بالحدة والمتوهج بالمواويل والقوة في صعوده التلوينات المقامية.
وقلما حاول ملحن سبر أغوار صوتها الجبلي القادر على أداء المواويل الوعرة، والانطلاق بروح متوهجة. وبدلاً من ذلك، تعرضت للتنميط السينمائي التقريري أو العاطفي. وشقت مسارها الغنائي في ملامح لم تطلق المكامن القصوى لصوتها، سواء في عذوبته أو قوته.
مع هذا، فرضت صباح، التي مرت يوم 26 من الشهر الجاري، ذكرى رحيلها، حضوراً طاغياً شكلته شخصيتها القوية، وصوت جدير بالنفاذ حتى من ألحان متوسطة أو عادية. ولم يكن أداؤها التمثيلي، وإن كان متوسطاً، أقل من مستوى جيلها، عدا استثناءات قليلة.
ظلت صباح تراوح بين تعدد في الهوية الغنائية والروح الصاخبة وسط غبار الحب. فكانت صورة إنسانة استسهلت الأشياء في الفن والحياة، وتجاوزت عقباتها بروح هي مزيج من البهجة والشقاوة. وقبل أن تغادر الحياة، أرادت إنهاءها برمزية احتفالية، كما اعتادت أن تكون مثيرة للجدل من دون غطاء من الأسرار؛ فكانت جنازتها حسب ما أوصت به، على وقع الغناء والرقص.
في مستهل ظهورها، كانت الفتاة اللبنانية اليافعة على موعد مع كبار الملحنين المصريين من بوابة السينما. لعلها شعرت لوهلة بثقل مسرح الأضواء الذي يفتن داخليه أول مرة، لكنها ببساطة وجرأة، تآلفت معه واندمجت فيه ببساطة، وربما كان لذلك دور في بعض الاستخفاف الذي طبعها فنياً. بصورة ما، لا تحسن الأسماء الكبيرة، دائماً، التعامل مع يفاعة الصوت؛ إذ اعتادت على التعامل مع مخزون هام طموحه حول الأصوات الكبيرة.
وفي أول فيلم لها، "القلب له واحد" غنت صباح "يا وردة" من ألحان محمد القصبجي، ولم يكن صاحب الروائع لأم كلثوم وأسمهان يطمح إلى أكثر من تقديم كليشيهات لحنية تطبع الأغنية السينمائية المعاصرة لذلك العصر؛ أي إيقاع التانغو. كان لافتاً أن صوت صباح يافع لم ينضج بعد، وقدمت لحناً بسيطاً على مقام النهاوند مع تحول للراست ثم عودة للنهاوند.
لم يخرج القصبجي عن هذا النمط في تعامله مع صباح، كانت بالنسبة لتصوره طفلة يافعة. كما أن خلفيتها الموسيقية، لا يمكنها إجادة تلويناته الصعبة؛ فصوتها لا يمتاز بشخصية نور الهدى الأكثر التقاء مع التصورات السائدة للغناء وقتها.
ملحن آخر، هو رياض السنباطي، لم يكن على استعداد لاتخاذ تلك الوجهة المتسمة بخفة ما يُعرف بـ "أغاني السندوتشات". وبعيداً عن مزاجه التطريبي الرفيع، الذي طبعه ملحمياً في صوت أم كلثوم، وظف أدواته ذات النسيج الرومانتيكي. وقدم لصباح لحن "أخاف عليه وأخاف منه" على مقام الكرد. ورغم ما اتسم به أداء صباح من عذوبة وجمال، ظلّ صوتها محتجزاً في منطقة رمادية لا تتآلف مع شخصيته المندفعة والجامحة. ويمكن ملاحظة عدم الراحة في بعض المواضع. على الأقل، فرض هذا المنحى على صوت صباح أن يغرق في ملابسات مع أصوات أخرى.
على نفس النسق، نستمع إلى صوت الشحرورة في أداء أغنية "يا بحر" لزكريا أحمد، كما لو كانت مغنية تقليدية هامشية. ويعود الأمر لطابع الطقطوقة الخفيف والكلاسيكي، لكن في مستهل الأغنية، تتيح لها مساحة ابتدائية إطلاق بعض قدراتها في الأداء الشرقي.
لم يختلف الأمر كثيراً مع جيل آخر من الملحنين. في ألحان فريد الأطرش ومحمد فوزي، أدت ألواناً خفيفة. لكن حتى فريد الأطرش، القادم من جذور أكثر قرباً من صباح، كان أكثر اندماجاً بعالمين هما التطريب أو التعبير الرومانتيكي. وفي المشهد السينمائي، ظلت صباح ملكة الدور الثاني الذي يتكئ عليه نجاح الفيلم، بحضور النجم الأول.
ربما كان حظها أوفر مع جيلها من الملحنين المصريين، لكنّ سمة الغناء الخفيف ظلت طاغية على ما قدمته. وفي أول تعاون لها مع كمال الطويل، حققت أغنيتها "مال الهوى" نجاحاً لافتاً وقتها. لاحقاً، أكدت صباح، أنّ الطويل ساهم في نضج صوتها وصقله لتجيد أداء المقامات الشرقية الأصيلة.
وحين سئُل الطويل، ضمن حفلة شاركت فيه صباح، عن كيف يرى مستوى لحنه المذكور، وما حققه من نجاح؛ أكد أنه لحن بسيط، لافتاً إلى أنّ نجاحه، كما يبدو، على صلة بميل الجمهور للجمل اللحنية البسيطة. أي أنّه لحن لم يأخذه بجدية كبيرة، في إطار تصوره لصباح. لكنّ صباح رسخت حضورها كمغنية ونجمة سينمائية.
مع الملحن محمد الموجي، حققت صباح خطوة إلى الأمام في مصر، وإن أحاطها ببعض رومانسياته. ففي "حبيب القلب"، يمنح اللحن تفاصيل أوسع من النمط الخفيف الذي جسدته، لكن صوتها انحسر في مناطق تحد من توهجهه. وبينما كانت الأغنية السينمائية للخمسينيات والستينيات تتخذ منحى جديداً، صاغ لها "ما تصدقوش الحب" بتوظيف واسع للأوركسترا، وتحديداً النفخيات النحاسية؛ فكانت جمله الغنائية جذابة وملائمة لذلك العصر. لكنّه، أيضاً يسوقها لأداء لونها الخفيف في "الحب الحب الحب" بأسلوب إلقائي بسيط.
وإذا أخذنا لحناً آخر له "وضبطه بيفكر بيا" وهو من الطابع الخفيف، فإنّه يلائم شقاوة صباح. وينسج الموجي اللحن عند الصعود في "ما هي أختك برضو عندية" بتوظيف طريقة التعبير اليومية التي ترددها نساء الأحياء الشعبية في القاهرة، في مط أصواتهن بدلع، وربما بسخرية.
غير أن إساءة الفهم ظلت تسود في ثيمات لحنية وأشكال تعبيرية، مع استثناء شكله بليغ حمدي في عدد من ألحانه لصباح. ومع انشغاله بالمخزون اللحني الشعبي المصري، وتفجيره موسيقى السبعينيات بثيماتها، كان بمقدوره إيجاد جسور تقاربه بالألحان اللبنانية والشامية.
وفي لحنه لأغنية "يانا يانا" يعيد صباح بغناء مصري لأثر واسع من مهدها اللبناني. وأصبحت أغنيتها تلك الأكثر شهرة بين أغانيها على الإطلاق. وعبر توظيفه للمقام الأثير لديه، البيات، ينسج مزيجاً شعبياً لبنانياً مصرياً، بجمل خفيفة وعاطفية ومُعبرة؛ إذ إن الجمل اللحنية البسيطة والقصيرة، ونبرة صوت صباح الذي أتضحت بحته، جعلتها أكثر تصالحاً مع الغناء المصري.
كذلك، سيعيد بليغ تجربته مع الشحرورة في "زي العسل"، مستدعياً نسيجاً مناسباً، لكنه يُطلق لها مساحات أوسع في الجوابات، بما يلائم صوتها الجبلي. ولا يمكن إغفال دور بليغ في إعادة اكتشاف صباح مصرياً، وإن أصبحت وقتها نجمة لا غبار عليها، ملأت شهرتها العالم العربي؛ أي أن صباح عاشت في مصر شكلاً من إعادة اكتشاف شخصيتها الغنائية، بعضها كان تلقائياً، وآخر مقصوداً.
في هذا السياق، تفاعلت الأصوات اللحنية الجديدة المصرية بشكل وثيق مع صوت صباح. وهو تيار واكبه عبد الوهاب على خلاف السنباطي وآخرين، مزاحماً الجيل الجديد، بل وتزعمه في كثير من الملامح. لكنه بخلاف بليغ، عجز عن خلق مزيج عضوي بين عناصر لبنانية ومصرية. وذلك رغم أنه لحن لها باللهجة الدارجة اللبنانية، فانساق لشكل من التلفيق بمجاورة ثيمات من تلك العناصر عبر تجانس لحني.
ففي أغنية "كرم الهوى"، نرى عبد الوهاب يستخدم ثيمات شعبية مصرية، نجدها في توظيف مدخل دولابي، كما في لحنه لعبد الحليم "الويل الويل"، إذ استخدم وتريات القيثارة الشامية الغليظة، موظفاً ثيمة موسيقية تماثل صوت "وله يا وله يا حلو يا وله"، فكانت الثيمات محاكاة سطحية لروح اللحن اللبناني، ومفتعلة.
ومع أنه من المجحف التقليل من نجاح صباح في أداء الأغنية المصرية، لكنها لم تمنحها تلك المساحات التي تجسد روح صوتها الجبلي. وهو ما يمكن ملاحظته بلحن بسيط لكبير الأغنية اللبنانية الشرقية، فيلمون وهبي "مرحبتين"؛ إذ يمنح للشحرورة بلحنه كل الفسح التعبيرية التي يتوهج فيه الصوت المشتق من الجبل، بنبراته العالية وتدفقه المتوهج.
ففي غناء المذهب على مقام البيات، نجد صوت الجبل القوي، ثم الأداء المنضبط وغير المنفلت الذي يشوب بعض أدائها في مصر. ومن الجبل، ينزل صوت الشحرورة إلى السهل في غناء الأغصان بعذوبة انسيابية ناعمة، يشرق فيه مقام النهاوند. فنرى فيه كل حنين البحر على الساحل اللبناني، متيحاً لها ثنائية بين أنوثة محتدة، وأخرى ناعمة ورقيقة. لكن فيلمون في الغصن الثالث، يصر أن يمنحها دوراً براقاً، تملأه ببحة وتعريج مقتدر في النبرات، في نقيض مع أدائها الأغصان على النهاوند. وهناك نكتشف بصورة أوسع، ماهية صباح، كصوت وكإنسانة.
تلوح صباح، مع حلول ذكرى رحيلها، بروح أقدمت على الغناء كما في الحياة، مستخفة ومتعمدة على نبذ النضج. فتركت نفسها على سجيتها، غير مبالية في أن يُساء فهمها من الملحنين أو الجمهور، على حد سواء، لكنها عاشت وغنت ببساطة اليافعين، واستمرت كذلك حتى آخر يوم من حياتها.