[ المطربة المصرية أم كلثوم تغني على خشبة المسرح في أوليمبيا بالعاصمة الفرنسية باريس في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 (غيتي إيميجز) ]
في الرابعة من عصر 3 فبراير/شباط 1975 كانت أروقة مستشفى المعادي العسكري مضطربة، أطباء يندفعون هنا وهناك لإنعاش قلب السيدة أم كلثوم، ومحاولات لضخ الأكسجين لرئتيها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بعد ثلاثين دقيقة.
هذا التاريخ باليوم والساعة والدقيقة مسجل ومعروف لمعاصري أم كلثوم ومن حضروا جنازتها قبل 45 عاما، وحتى من ولدوا بعد وفاتها من المهتمين بحياة كوكب الشرق، لكن تاريخ ميلادها غير محدد، وتختلف الروايات حوله، ما بين ديسمبر/كانون الأول 1898 ومايو/أيار 1904، وتضفي هذه الروايات المختلفة للميلاد أبعادًا لأسطورة أم كلثوم، باعتبارها المسيطرة على موسيقى القرن العشرين الذي ولدت في مطلعه.
طفلة ولدت داخل منزل بسيط بقرية فقيرة، تبعد عن العاصمة عشرات الكيلومترات، وبطبيعة الزمان والمكان كان ينتظرها مصير تقليدي، الزواج والإنجاب والوفاة، لكن فاطمة إبراهيم البلتاجي الموهوبة بصوت قوي بمساحات واسعة لها مسار مختلف، وضعها أبوها على أوله وانطلقت هي لتؤسس مسارها الذي سيرفعها لمكانة غير مسبوقة عربيا وعالميا، بدأته بالغناء وهي بعمر الثانية عشرة إلى جانب أخيها وأبيها في حلقات الذكر وليالي الإنشاد في أسرة غنائية صغيرة.
مصادفة تغيير المسار
كانت إحدى ليالي رمضان عندما ركب الشيخ أبو العلا محمد، الرائد الأول في تلحين القصيد في حينه، القطار من القاهرة متجهين إلى السنبلاوين (أحد مراكز جنوب شرق محافظة الدقهلية)، وفي طريق القطار صعدت الأسرة الصغيرة إلى القطار.
كانت الطفلة فاطمة تغني من ألحان الشيخ أبو العلا الذي سمعها مصادفة لتنشأ علاقة صداقة بين الشيخ الشهير والعائلة الصغيرة، ليلح أبو العلا على الأب ضرورة أن تأخذ الطفلة فرصتها بالقاهرة ليقتنع الأب وتنتقل العائلة إلى القاهرة.
بدأت الطفلة التي صارت شابة في تعلم أصول الموسيقى والغناء والمقامات، لتغني أولى أغنياتها "الصب تفضحه عيون" من ألحان الشيخ أبو العلا وكلمات الشاعر أحمد رامي، الذي سيشارك في صنع أسطورتها ويكتب لها 139 أغنية على مدار نحو خمسين عاما.
بلبل الشرق
لعب أحمد رامي وأسرته دورا محوريا في حياة أم كلثوم القادمة من دلتا مصر، مرتدية ملابس الذكور الجبة والعقال، إذ تعلمت في بيت عائلته وعلى يد أخواته أصول اللياقة، كما ساعدها رامي نفسه في فتح مداركها القرائية وفي تهذيب ذائقتها الشعرية، كما كان أول شاعر يكتب لها خصيصا، إذ كتب لها ثلاثين أغنية خلال ست سنوات من 1924 حتى 1929، منها أغنية "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" التي حققت أسطوانتها مبيعات كبيرة ونجاحا ملحوظا عام 1928.
كما ساعدها رامي في اختيار كلمات من الشعر الأندلسي والعباسي، وعرّفها إلى الملحن الشاب المجدد حينها محمد القصبجي، ليشكل الثلاثيّ مشروعا غنائيا جديدا في منتصف عشرينيات القرن الماضي، ما جعلها مطلوبة حتى خارج الحدود المصرية، إذ أحيت حفلات في عدة مدن فلسطينية في إطار جولات فنية كانت تدعى فيها بلقب "بلبل الشرق"، الذي تحول فيما إلى "كوكب الشرق".
الثلاثينيات الذهبية
مثلما فعل رامي، لعب القصبجي دورا في إعداد أم كلثوم فنيا ومعنويا وشكل لها فرقتها الخاصة، وفي الثلاثينيات واصل الثلاثي مشروعهم، ما بين الأغنيات الطقاطيق والأغنيات الخفيفة الجديدة، لتتشكل جماهيريتها التي ستؤهلها لتغني في افتتاح الإذاعة المصرية، كأول صوت غنائي بعد قرآن الشيخ محمد رفعت، وبدء طقس حفلة الخميس الأول من كل شهر في 1934، والعبور إلى السينما في فيلمها الأول "دنانير"، الذي لم ينجح بشكل كاف، لكن رغم ذلك حافظت أم كلثوم على نجاحها كمغنية، ستصبح الأولى في زمانها ومكانها خلال العقد التالي.
نضج الأربعينيات
في الأربعينيات تربعت أم كلثوم على عرش الغناء، باعتبارها مطربة مصر الأولى، فالجميع يتسابق لتقديم كلمات وألحان لها، فيما يتسابق الجمهور على حضور حفلاتها أو طلبها لإحياء حفلاته الخاصة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعمدت إلى الأغنيات الطويلة، ذات التنوعات اللحنية والأدائية، بالتزامن مع ظهور الشاعر بيرم التونسي الذي كتب لها "حبيبي يسعد أوقاته" وغيرها من الأغنيات الأطول عن ذي قبل، وباتت أم كلثوم تغني أمام الملوك والأمراء، في مصر وفي الدول العربية المحيطة.
دماء بليغ الجديدة
حافظت أم كلثوم على نجاحها خلال الأربعينيات والخمسينيات حتى بعد ثورة يوليو 1952 التي غيّرت صفحة الفن المصري، وظلت محتفظة بسيطرتها على آذان وقلوب الجمهور العربي حتى مع تغيرات الذوق العام.
استعانت أم كلثوم بالشاب الجديد حينها بليغ حمدي وإيقاعاته السريعة الراقصة، نزولاً على هوى الجمهور الذي كانت تجيد التقاطه أولًا بأول، كذلك تجيد التفاعل معه حتى أنها غنت على مقدمات راقصة وهي في عقدها السابع من العمر في الستينيات من القرن الماضي.
تيار الثورة الهادر
يحكي الكاتب محمود عوض، في كتابه "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد"، عن طلب غريب تقدم به اللواء المصري (فرقة من الجيش) الذي حوصر في الفالوجة الفلسطينية، منذ أكتوبر/تشرين الأول 1948، حتى أبريل/نيسان 1949، إذ طلب عبر اللاسلكي أن تغني أم كلثوم أغنية "غلبت أصالح في روحي" في حفلها المقبل، الذي كان مقررًا إقامته في الخميس الأول من فبراير/شباط 1949.
نقل الكاتب مصطفى أمين إلى أم كلثوم هذا الطلب وكانت أعدت برنامج الحفلة بالفعل، إذ ضم ثلاث أغنيات لم تكن "غلبت أصالح في روحي" واحدة منها، إلا أنها لبت طلب اللواء المحاصر، وكانت واحدة من أجمل تسجيلاتها للأغنية.
ضم هذا اللواء قائده سيد محمود طه، وجمال عبدالناصر الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بعد 1952، وبين حصار الفالوجة وثورة يوليو، كانت عودتهم من فلسطين، حيث احتفت بهم أم كلثوم بمنزلها في حي الزمالك بالقاهرة.
وحين قامت الثورة كانت أم كلثوم في قمة مجدها الغنائي الفني، وكانت تحظى برضى الأسرة الملكية، فقد غنت للملك وجاملته، وبعد قيام الثورة كان من الممكن أن تتعرض لما تعرض له كثيرون غيرها من الفنانين من إبعاد أو حظر، لكن لأن لها سوابق فضل مع الجيش ولأنها أم كلثوم التي يمكنها توجيه وحشد الناس استطاعت النجاة من تيار الثورة الهادر.
وغنت أم كلثوم للثورة أيضا، ربما إيمانا بها وربما بغرض المواءمة مع نظام الحكم الجديد، لكنها بالتأكيد نجحت في الإبقاء على مكانتها ومارست دورا وطنيا في جمع التبرعات لصالح الجيش المصري بعد نكسة 1967، وظلت تمارس دورها حتى ماتت في فبراير/شباط 1975.