[ القاص المغربي حسن قرى يرى أن هذا الجنس الأدبي "القصة القصيرة جدا" بدأ يفقد جزءا من بريقه (الجزيرة) ]
منذ نشأتها مالت "القصة القصيرة جدا" -التي انتعشت في المغرب وبلاد الشام وتتميز بحجمها القصير ونزعتها الموجزة والمقتضبة- إلى التفرد، فامتلكت من الخصائص الفنية ما حافظ على بنيتها وشكلها ولغتها ونسقها السردي.
وتمزج "القصة القصيرة جدا" بين الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلالي والقوة الإيحائية والتوتر الدرامي والحبكة المنتجة لأثر كلي، كما "يستند هذا الجنس الأدبي إلى فلسفة "الزايات" الثلاثة المتمثلة في الإيجاز والتركيز والمجاز، بشكل قصدي، والتي تشكل إطارها الفني العام"، كما يشرح الناقد المغربي والأكاديمي ميمون مسلك للجزيرة نت.
ويشير الناقد والباحث المغربي جميل الحمداوي إلى أن القصة القصيرة جدا "تحدث لدى القارئ ذلك الإدهاش المربك والمفاجأة الصارخة والصاخبة، مع استعمال الصورة الومضة والمفارقة وتسريع الإيقاع".
ومع الإيقاع السريع للحياة يجد القارئ في ذلك الإيجاز والإدهاش متعة ولذة، وهي مثل المعزوفة التي تؤديها الأنامل والأنفاس بمجموعة من الآلات المتضافرة برهافة إحساس وتناغم إيقاع ورؤية خلاقة، كما يقول القاص المغربي عبد اللطيف النيلة.
لكن مع تراكم الإنتاج ارتباطا بقصر حجمها مقارنة مع باقي الأجناس الأخرى والانفتاح الإلكتروني، احتد الجدل بين المبدعين والنقاد حول جدوى الكم في غياب رؤى واضحة تؤطر سير هذا الجنس الأدبي إلى مزيد من التفرد والإبداع.
انتكاسة أم انتعاش؟
يرى القاص المغربي عبد اللطيف النيلة في حديث للجزيرة نت أن القصة القصيرة جدا شهدت تراكما كميا لافتا رغم حداثة سنها، غير أن ذلك لم يحمل في معظمه قيمة إبداعية وإضافة نوعية.
ويشبهها بـ"حمار السرد" الذي يمتطيه كل من هب ودب في غياب المعاشرة العاشقة والتمثل الجيد لنصوص القصاصين المبدعين على المستوى العالمي، وفي غياب لوعي نظري وجمالي بمقومات هذا الجنس الأدبي.
ويبرز الباحث مسلك ميمون أن هذه الانتكاسة، حسب تعبيره، تعود بالأساس إلى عدم الاطلاع والبحث وسهولة النشر الإلكتروني وغياب النقد الموضوعي، مع انتشار نقد المحاباة والمجاملات، مبرزا أن كل هذا ساهم في خنق الإبداع الحقيقي.
في مقابل ذلك لا يرى الأكاديمي المغربي جميل الحمداوي -في تصريح للجزيرة نت- أن القصة القصيرة جدا تمر بأزمة وكساد أو نكسة إبداعية وفنية وجمالية، بل على الرغم من بعض شوائبها التي تعرفها باقي الأجناس الأدبية، فإنها تعيش فترة ازدهارها المتوهج ولحظة انتعاشها الزاهي بتراكمها الكمي والكيفي.
أما القاص العراقي عباس عجاج فيقول للجزيرة نت إن نظريات الحداثة وما بعد الحداثة كسرت الأطر التقليدية للكتابة، وفسحت الطريق لتداخل الأجناس، وإن الخروج عن المعايير النمطية ساعد على تمايز الأشكال الكتابية.
استواء العود
هل من الطبيعي أن يتعثر كل جنس أدبي مستحدث في بداياته، وينتظر مبدعوه من الجميع مزيدا من الصبر والمتابعة والتشذيب إلى أن يستوي عوده وتكتمل معالمه الفنية والجمالية كما وقع لأجناس أدبية أخرى مثل قصيدة النثر في الوطن العربي؟
ويقول رئيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا جميل الحمداوي في هذا الصدد إن هذا الجنس الأدبي لم يستو بعد، فهو فن صعب المراس ويحتاج إلى مبدع كفء وكاتب متمرس بامتياز، إضافة إلى أن قلة التجربة عند مبدعيه تسبب مشاكل في التقعيد والتنظير والتقويم والتوجيه.
كما أن المبدعين والنقاد ما زالوا مختلفين حول الأركان والشروط على حد سواء، ومترددين حول عناصرها الثابتة الجوهرية وعناصرها التقنية الثانوية، يضيف الحمداوي.
امتداد وإقبال
أصبح العالم كله قرية صغيرة بفضل وسائل الإعلام الجديدة واستفاد الوطن العربي من هذه التقنية العصرية الخارقة، وأصبحت المعلومات والأخبار لا تسافر وإنما تبرق برقا، ولهذا انتشرت القصة القصيرة جدا انتشار النار في الهشيم.
ويؤكد الأكاديمي مسلك أنه ما وجد فنا استقطب كل هذا التشكل المختلف كالذي وجده في القصة القصيرة جدا، وهي ظاهرة صحية شريطة حسن الاطلاع على مقومات هذا الفن وتجنب عملية الإسقاط، لأن لكل فن أدواته الخاصة التي لا يكون إلا بها وبواسطتها، ولكن الذي حدث أن الرداءة انتشرت كالفيروس النشيط وعمت بشكل ملحوظ.
ووفق عضو الرابطة العربية للآداب والثقافة عباس عحاج فزيادة التوجه والإقبال على تناولها نقدا وتنظيرا وإصدارا على مستوى كتابها ونقادها، وعلى المستوى الأكاديمي والدراسات العليا، وكذلك تعدد إقامة الملتقيات والمهرجانات في كافة الدول العربية، دليل على عافيتها.
في حين يشدد حمداوي على أنه مقتنع أيما اقتناع بهذا الفن الأدبي الجديد، ويعتبره مكسبا لا غنى عنه وأنه من إفرازات الحياة المعاصرة المعقدة التي تتسم بالسرعة الهائلة والطابع التنافسي المادي والمعنوي من أجل تحقيق كينونة الإنسان ماديا ومعنويا وإثباتها بكل السبل الكفيلة بذلك.
هروب وعودة
يصادف النقاد والمبدعون واقع الاستسهال في "القصة القصيرة جدا" مما دفع قصاصين إلى هجرتها إلى أجناس أدبية أخرى، لذلك يلاحظ القاص المغربي حسن قرى أن هذا الجنس الأدبي بدأ يفقد جزءا من بريقه والحماس الذي كان يجتاح عددا من مبدعيه، بل إن بعضهم ابتعد عنها نهائيا وذهب ليجرب حظه في غيره.
ويضيف "قد يعود الأمر إلى التخمة والتسرع في نشر النصوص، حتى لو لم تبلغ نضجها وعمقها المفروض في هذا الجنس الأدبي المشاكس، وقد يعود الأمر إلى الإشباع الذي لم يعد معه الشعور بلذة كتابتها أو الشعور بأنها استنفدت مهمتها".
ومقابل ذلك يبرز الباحث الحمداوي أن البقاء والاهتمام الكبير بلا ريب سيكون لهذا الجنس الأدبي المستحدث، والدليل على ذلك أن كثيرا من الروائيين وكتاب القصة القصيرة العرب قد بدؤوا في التخلي عن كتاباتهم السابقة التي تعودوا عليها، وشرعوا في تجريبه والتكيف معه إبداعا وكتابة وتصورا.
ويؤكد أن القصة القصيرة جدا ستكون أفضل الأجناس الأدبية في المستقبل لأن عصرنا يتسم بالسرعة والعجلة والإيقاع المتسارع، وبالتالي لا يسمح للقارئ العربي بأن يقرأ نصوصا مسترسلة كما وكيفا، ولا يعني هذا أن الأجناس الأدبية الأخرى ستختفي وتنقرض بشكل نهائي، بل ستبقى حية ترزق إلى جوار القصة القصيرة جدا.