في كل رمضان تعدّ جدة حسين له طبق "الفطاير" الذي هو معجنات لذيذة محشوة بالجبن أو اللحم أو غير ذلك، مخبوزة بالفرن.
أما هذه السنة فقد استبدلت الجدة حشوة فطائرها بالعشب الأخضر وخبزتها على نار احتراق البلاستيك. لكن الأسبوع الماضي وبعدما أفطر حسين على هذه الفطائر بقليل، خطابني قائلاً "ثق بكلامي أن طعمها أفضل مما تظن بوصفها".
يعيش حسين -بحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الخميس 30 يونيو/حزيران 2016- في بلدة مضايا الصغيرة في ريف دمشق؛ وهي واحدة من المناطق القليلة الخاضعة لسيطرة المعارضة بالقرب من العاصمة السورية، وهي منذ عام كامل تحت حصار لصيق من حزب الله اللبناني المؤيد لنظام الرئيس السوري.
تحيط الألغام بالبلدة من كل الجهات، وأما من تسوّل له شجاعته التسلل هارباً فغالباً ما يخسر أطرافاً له، في حين أن قوافل المساعدات الدولية لا تأتي سوى بالنزر اليسير من مؤن البرغل والأرز والسكر وغذاء الرضع وعلى فترات متقطعة غير منتظمة كل بضعة أشهر، بالكاد تسد رمق المدنيين المحاصرين داخلاً على قيد الحياة والبالغ عددهم 40 ألفاً.
جريمة حرب
ووسط سيل الكوارث التي تفجرت عن الحرب السورية (من ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على الساحة وأزمة اللاجئين التي تعصف بالعالم وأعداد الضحايا التي ناهزت 400 ألف) يبدو أن المجتمع الدولي يرى في بؤس الحياة تحت نير الحصار مجرد مشكلة من الدرجة الثانية. لكن تجويع المدنيين في سبيل تحقيق مكاسب عسكرية، هو جريمة حرب حسب اتفاقيات ومعاهدات جنيف، كما أن الموت جوعاً تحت الحصار تجربةُ موتٍ مؤلمة ومفجعة لا تقل فداحتها عن الموت بقصف بالبراميل المتفجرة ولا عن القتل بالإعدام ذبحاً.
حسين واحد من 590 ألف سوري تقول الأمم المتحدة إنهم يعيشون حصاراً داخل البلاد (وتقول بعض التقديرات إن أكثراً من مليون مدني يعيشون ظروفاً مشابهة للحصار). غالبية هؤلاء المحاصرين العظمى حالهم من حال حسين: عالقون داخل حصار تفرضه عليهم القوات الموالية للرئيس بشار الأسد، لكن مجموعات تنظيم داعش وجبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة وبعض قوات المعارضة جميعها هي الأخرى فرضت حصاراً على بلدات بسكانها.
في 21 يونيو/حزيران قال ستيفن أوبراين مساعد الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية في تقرير له، إن 9 ملايين سورياً يعانون "نقصاً في الأمن الغذائي".
ويصعب بيان فداحة هذا الحرمان من الطعام والآثار النفسية الجسمية لنقصه، خاصة في شهر رمضان الذي يصوم نهاره المسلمون ويفطرون ليله. لقد تحدث تقرير نيويورك تايمز طوال الشهر الفضيل لمدنيين يتضورون جوعاً في كل أنحاء سوريا، وقالوا إنهم يحاولون سد رمقهم سوية بكل ما يمكن إيجاده من حولهم؛ محافظة منهم على تقاليد الشهر وسننه، بيد أن شهر رمضان هذا العام أطلّ ومضى دون احتفاليات تذكر.
الظروف فرضت الصيام
نقل التقرير عن جهاد الذي يعيش في حي الوعر المحاصر بمدينة حمص "لقد فرضت الظروف علينا الصيام" ففي رمضان يقضي وقته في السوق يساوم الباعة على سعر الأغذية المعلبة لقاء ما ادخره من حفنة ليرات.
أما محمد الذي يعيش في داريا جنوب دمشق، فقال إنه نادراً ما يغادر القبو الذي يسكنه، فهو يخشى أن يقضي نحبه بقصف البراميل المتفجرة التي تلقيها يومياً مروحيات النظام، بيد أنه كل ليلة يفطر على طبق من البرغل والرز، فقد دأب الجيش السوري على قصف بساتين على مقربة بضعة مئات من الأمتار كان محمد يزرع خضراواته فيها.
ورغم أن قوافل المعونات المتقطعة التي ترسلها الأمم المتحدة ومنظمات الغوث تحول دون حدوث مجاعات جماعية إلا أن الحصار لم يتحلحل أو يرخ قيوده ولو شيئاً قليلاً على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، لا بل حتى خلال هدنة جزئية حسب ما أفادت به جمعية لحقوق الإنسان تدعى مرصد الحصار Siege Watch .
وبهذا يعيش السكان المحاصرون تحت رحمة رجال مسلحين يحيطون بهم من جميع الجهات، ولا تدخل قوافل المساعدات إلا من بعد موافقة الحكومة السورية عليها، وقد أفادت الأمم المتحدة أن العساكر كثيراً ما يأخذون الأطعمة والأدوية من الشاحنات وحصل أيضاً أن اعتدوا على المدنيين الواقفين في انتظار مجيء القوافل.
تسيطر على بلدة مضايا مجموعة معارضة إسلامية تسمى أحرار الشام، لكن حسين يقول إنه لم يحمل قط سلاحاً وأنه لا يتشابه في أي شيء مع المعارضين؛ وقد حاول كسر ضجره اليومي وملله بإشباع فضوله وحبه للكتب بقراءة كتب التاريخ التي أنقذها من مكتبة كانت لأبيه احترقت عام 2012 حينما تحولت الاحتجاجات إلى العنف.
وفي يناير/كانون الثاني أرسل حسين لمراسل الصحيفة الأميركية صورة لعشب وطحاب مسلوقة تناولها على وجبة العشاء وكتب "أنا أحب الدجاج، لذلك كل عني إن استطعت".
خسر حسين من وزنه 23 كيلوغراماً، بيد أنه في ذلك من المحظوظين، فتقارير منظمة أطباء بلا حدود قالت أن 46 مدنياً قضوا نحبهم جوعاً في مضايا طوال شهري ديسمبر ويناير (كانون الأول والثاني).
لم تصدر حتى الآن أية مبادرات دولية لحل أزمة حصار البلدات السورية توازي في حجمها فداحة المشكلة، وقد قالت في أبريل/نيسان المجموعة الدولية لدعم سوريا (وهي تحالف يضم روسيا وأميركا) أن نظام الأسد عليه الكف عن عرقلة توصيل المساعدات الإنسانية، وحددت الأول من يونيو/حزيران موعداً نهائياً لحرية حركة وتنقل المساعدات، بل حتى أن التحالف المذكور والأمم المتحدة وعدا بإنزال المؤن والمساعدات بإلقائها جواً إن لزم الأمر وتعرقل إدخالها براً.
جاء ذلك الموعد النهائي وكما جاء ولّى. سمح نظام الأسد للهلال الأحمر السوري بتوصيل المساعدات الغذائية لداريا في الـ10 من يونيو/حزيران في قافلة كانت الأولى للبلدة منذ 4 سنوات، بيد أن المساعدات لم تغطّ سوى 2400 شخص من أعداد السكان المدنيين التي تتراوح بين 4000 و 8000 من المحاصرين. وحتى تاريخه لم تُلقَ المساعدات جواً سوى في مدينة دير الزور التابعة للحكومة والمحاصرة من جميع الجهات بتنظيم داعش.
الآن وبعد 5 سنوات من الاقتتال الدائر لم يقترب المجتمع الدولي قيد أنملة من حل مشكلة عويصة هي حصار نظام الأسد للغالبية العظمى من المدنيين المتضورين جوعاً، فلا يسمح لمجموعات ومنظمات الغوث بالدخول إلى المناطق المحاصرة دون موافقة النظام ودون أن تنطلق قوافل المساعدات هذه من دمشق الموالية للحكومة.
لا أمل بتغير الأحوال يلوح في الأفق، فالقوات الموالية للأسد ستستمر في محاصرة السكان عندما تفشل بإخراج المعارضين من بين ظهرانيهم. تقول فاليري جيبالا المديرة التنفيذية لمعهد سوريا الذي هو مركز دراسات استراتيجية في واشنطن أنه "لا توجد تبعات سلبية تعقب فرض هذه الحصارات".
ففي حين أن همجية ووحشية تنظيم داعش استفز العالم لإطلاق حملة عسكرية متعددة الدول لمحاربته وقتاله إلا أن الحصارات المستمرة لم تجنِ سوى بضعة بيانات وعبارات قوية اللهجة في إدانتها وحسب؛ ولو أن الجهة التي تفرض الحصار وتجوّع المدنيين كانت تنظيم داعش بدلاً من نظام الأسد، لربما وجد العساكر المرابطون على تخوم البلدة أنفسهم في مرمى قصف الطائرات الأميركية.
بيد أن الولايات المتحدة في الوقت الراهن تجد نفسها مضطرة لقبول وضع أخرق في الاصطفاف إلى جانب الرئيس الأسد في حربه على داعش، ما يدعم موقف حكومة تجوّع شعبها بيدها.
قبل الحرب كان شهر رمضان أسعد أشهر السنة في بلدة مضايا حسب ما يذكر حسين. كانت كل أسرة تعد طبقاً مختلفاً ثم يتشاركون "سكباته" مع الجيران ساعة المغرب والإفطار، أما الآن فلا طعام يقدم ولا طاقة بالناس الذين أضنتهم المجاعة طيلة عام لا للسير في الطرقات ولا لإلقاء التحية على الجيران.
يختم حسين بالقول "هذا الشهر كسابقه: وجبة واحدة في اليوم".