ليس ثمة وطن عربي تنتشر فيه الحركة الصوفية انتشارا واسعا مثل السودان. أينما تول وجهك في السودان تجد القباب والأضرحة ومعالم صوفية لا تخطئها العين.
ويتجلى ذلك في مواسم الصوفية ومناسباتهم التي تعرف ب”الذكرى” وفيها يتذكرون مآثر شيوخهم و يأتون لأضرحتهم ويقيمون ولائمهم التي تشبه “القرابين” ، فيها يمارسون طقوسهم الدينية وينشدون قصائدهم التي يمدحون فيها النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها لا يخلو من مدح لشيوخهم يغلب عليه المغالاة التي تصل لحد الاعتقاد فيهم بأشياء لا يقبلها العقل البشري.
هذا هو الحال في كل أصقاع السودان التي ينتشر فيها التصوف بشكل واسع جدا، في كل شارع سوداني تجد صدى صوت المتصوفة في مساجدهم وما حولها من سوح ينشدون قصائدهم المختلفة .
لست هنا بصدد التحدث عن حكم ديني لممارسات الصوفية ،إنما لتبيان حالة سياسية فريدة قلما وجدت في المحيط العربي والإسلامي ، التصوف السياسي السوداني أنموذج مختلف لم يحظ بحظ وافر من الدراسة والقراءة المتأنية لتجربة عمرها هو عمر النشاط السياسي السوداني و ظلت ملازمة له منذ فترات النشاط المقاوم للاستعمار .
نشأة الصوفية في السودان
مر السودان بحقب تاريخية عديدة، نشأت حضارات كثيرة من بينها كوش ونبتة ومروي قبل آلاف السنين. حتى أتى عهد الإسلام وبعد انتشاره في بقاع المعمورة، أتى الفتح الإسلامي للسودان عبر حملة عبد الله بن أبي السرح التي وصلت إلى مدينة “دنقلا العجوز” عاصمة دولة المقرة المسيحية -آنذاك-.
وانتهت هذه الحملة بتوقيع “صلح البقط” بين المسلمين والنوبة في شمال السودان. هذه الاتفاقية قامت أهم بنودها على احترام حرية العبادة.
ومن هنا بدأت رحلة دخول المسلمين إلى السودان ، يشير باحثون ومهتمون بالشأن الصوفي إلى أن البداية الحقيقية لدخول الصوفية إلى السودان كانت في منتصف القرن السادس عشر الميلادي في عهد سلطنة الفونج الإسلامية التي رعت النشاط الصوفي.
وقدمت السلطنة الدعوات لزعماء الصوفية في مصر والحجاز لزيارة السودان ،والإقامة فيه لبعض الوقت وكانوا مكان ترحاب وحفاوة من ملوك دولة الفونج.
وقد منحت هذه المعاملة فرصة ذهبية لرجال الدين والصوفية لدخول السودان من مختلف أصقاع العالم الإسلامي -آنذاك-.
تتعدد الطرق الصوفية في السودان ،ويبلغ عددها أكثر من أربعين طريقة. أشهرها : الختمية و القادرية و الشاذلية و المكاشفية و السمانية .
منذ دخولهم إلى السودان في القرن السادس عشر الميلادي، انتشرت الصوفية في كل أنحاء السودان تقريبا ، ومرت الحركة الصوفية بمراحل عديدة حتى تعدى تأثيرها في المشهد السوداني حدود التأثير الديني ليشمل جوانب متعددة أبرزها التأثير السياسي وهو الذي جانبه الصواب في مراحل تاريخية مختلفة.
وتتوزع الصوفية على امتداد الخريطة السودانية وثمة طرق صوفية كبرى لها انتشار واسع في مدن وأقاليم محددة ، وهو أنموذج مماثل لخارطة الانتشار المذهبي والطائفي في العراق ولبنان وسوريا مثلا ، إذ توصف مدن محددة هناك بأنها "معقل" شيعي أو سني أومسيحي .
تنتشر الطريقة الختمية في شرق السودان وفي مناطق في شمال ووسط السودان إلا أن معقلها الرئيس هو مدينة كسلا في شرق السودان.
كما تنتشر طائفة الأنصار الصوفية التي أنشأها محمد أحمد المهدي في مناطق كردفان ودارفور والنيل الأبيض. وتعتبر مدينة الجزيرة أبا معقل طائفة الأنصار في السودان.
بالإضافة إلى طرق أخرى من بينها السمانية و القادرية، ويتجلى مظهر الانتشار الصوفي في الأنشطة الصوفية التي تبدو واضحة في كل مكان في السودان.
التأثير السياسي للتيارات الصوفية في المرحلة الأولى
حظي التيار الصوفي منذ دخوله إلى السودان في القرن السادس عشر الميلادي بدعم ورعاية من النظام الحاكم في ذلك الحين. إذ دعمت سلطنة الفونج النشاط الصوفي وعملت على دعوة قادة الطرق الصوفية إلى السودان لنشر “التعاليم الصوفية”.
وفي تلك الحقبة كانت العلاقة بين الحركة الصوفية والسلطة ، قائمة على نهجين يرتبط كل نهج بطرف منها، فقد سعى قادة الحركة الصوفية إلى السلطة السياسية سعياً لاستقطابها ،بينما سعت السلطة للاستفادة منهم في بسط نفوذها على الشعب وإبعاد خطر التمرد والعصيان.
وثمة نماذج كثيرة على هذا النهج تجد حيزا واسعا في كتب الصوفية في السودان. وأشهرها كتاب “طبقات ود ضيف الله” الذي يوثق للعديد من الحركات الصوفية وفيه كثير من الأحاديث عن علاقة الحاكم بشيوخ الصوفية.
ودأبت السلطة الحاكمة المتمثلة في سلاطين وملوك الفونج، على تبني نهج أساسه السعي لاحتواء شيوخ الصوفية، فقد كانوا يستشيرون شيوخ الصوفية في شؤون الدولة المهمة.
"الثورة المهدية "…بداية الحكم الصوفي
ترتب على الانتشار الواسع للحركة الصوفية في السودان ظهور تكتلات وجماعات صوفية كان لها تأثير واضح في المشهد السياسي السوداني إلى الحد الذي دفع بعضها للتفكير في إنشاء دولة تتبنى منهجهم.
قامت “الحركة المهدية” بزعامة “محمد أحمد المهدي” في 1881م التي تطورت لتعرف باسم “الثورة المهدية”. ونجحت في صنع نفوذ واسع في كل أرجاء السودان أدى لاحقا لتكوين ما عرفت ب”الدولة المهدية”.
وقامت “الثورة المهدية” تحت قيادة “محمد أحمد المهدي الذي ولد في 1843 في جزيرة لبب شمال السودان.
وارتكزت الحركة على ركائز دينية إذ أعلن “محمد أحمد المهدي” أنه “المهدي المنتظر”. وأصبح هذا الاعتقاد راسخا لدى مؤيديه الذين انتشروا في كل أجزاء السودان.
ولقب المهدي نفسه بخليفة رسول الله و أصبح شعار أنصاره “لا إله إلا الله محمد رسول الله و المهدي خليفة رسول الله” . كان المهدي منتميا للطريقة “السمانية”. وطاف أرجاء السودان معلنا عن حركته ونجح في خلق نفوذ و شعبية واسعة في السودان مستغلا “كذبة” أنه المهدي المنتظر التي آمن بها أتباعه.
حدثت معارك كثيرة بين أنصار المهدي والنظام التركي المصري حتى كانت معركة حصار الخرطوم الشهيرة. وفيها نجح المهدي وأتباعه في اغتيال الحاكم الإنجليزي للسودان “تشارلز غوردون” وتحرير الخرطوم في يناير 1885.
وبذلك بدأ عهد ما عرفت ب”الدولة المهدية” التي استمرت لسنوات، وبعد وفاة المهدي في يونيو 1885 حدثت انقسامات وصراعات داخل الدولة المهدية ، الأمر الذي أدى لعودة الاستعمار مجددا وبدأت حقبة الحكم المصري الإنجليزي للسودان التي استمرت لأكثر من 5 عقود انتهت باستقلال السودان في مطلع يناير 1956.
ويرى كثيرون أن حكم المهدية تسبب في تجهيل المجتمع و استغلاله ، واتهم قادة في الحركة المهدية بارتكاب مجازر وحشية وأعمال عنف لكن أنصار المهدي رفضوا هذه الاتهامات واعتبروها تشويها لهم.
أصبحت “الأسرة المهدية” ذات تأثير كبير في المشهد السياسي السوداني ونجحت في تأسيس حزب الأمة الذي أصبح هو والحزب الاتحادي قطبين للتصوف السياسي في السودان.
الطريقة الختمية … الركن الثاني لهرم التصوف السياسي السوداني
تعد الطريقة الختمية الميرغنية ركنا آخر من أركان البناء الصوفي السياسي ،وتشكل الطريقة الختمية وكيان الأنصار أكبر كيانين صوفيين في السودان يستند عليهما حزبان سياسيان هما الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل وحزب الأمة.
مدينة كسلا في شرق السودان هي معقل الختمية الرئيس إذ بها ضريح “الحسن أبو جلابية”. وهو نجل مؤسسها في السودان ويزوره الآلاف من السودانيين من مختلف المدن السودانية في مناسبة صوفية سنوية .
دور التصوف السياسي في الأزمة السودانية
مر السودان منذ استقلاله في يناير 1956 بأزمات متعددة تتعدد أسبابها ، ومن بينها سطوة الاستبداد والبطش العسكري وفشل النخبة السياسية المدنية في خلق مشروع وطني يحقق الخلاص الحقيقي ، ويحمل معالم النهضة والبناء التي تقود لتحقيق دولة متقدمة.
وبالإشارة إلى دور الأحزاب في الأزمة فإنه حري بنا ذكر أن مرحلة ما بعد الاستقلال في السودان حتى تاريخ 30 يونيو 1989 -تاريخ انقلاب الإنقاذ- ، شهد فيها السودان نفوذ حزبين سياسيين يستندان على قاعدة صوفية واسعة هما الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يمثل طائفة الختمية وحزب الأمة الذي يمثل طائفة الأنصار.
توصف مراحل حكمهما بأنها لم تسهم في ترجمة معاني الديمقراطية الحقيقية. ولم تشهد سعيا لتحقيق نهضة حقيقية وغاب عنها المشروع النهضوي ، وليس ثمة غرابة في ذلك ؛ لأن هذه الأحزاب في أصلها تستند على قاعدة صوفية مغيبة أكثر من استنادها على قاعدة تؤمن بمشروع سياسي متكامل وهذا رأيه تبناه نخبة من السياسيين والمحللين.
هذا الغياب يتعدى هذين الحزبين إلى بقية الأحزاب السودانية. التي تفتقر لمشروع سياسي يؤسس لمرحلة حكم راشد و هذا ما استغله العسكر و أطال أمد حكمهم.
ولعبت الأحزاب الطائفية دورا كبيرا في ترسيخ الولاء للزعيم الطائفي بدلا من الإيمان بمشروع سياسي وفكري واضح المعالم ، لم يتورط قادة هذه الأحزاب في تنفيذ انقلاب عسكري مثل الحزب الشيوعي والجبهة الإسلامية.
وهما الحزبان اللذان تجاهلا قيم الديمقراطية حين أقدم قادة كلا الحزبين على تنفيذ جريمة الانقلاب ، إلا أن قادة الأحزاب الطائفية كان لهم دور آخر ساهم في تعميق إشكالات السودان ،وهو دور لا يختلف عن دور الأحزاب التي دعمت مسار الانقلابات العسكرية.
مستقبل التصوف السياسي بعد الثورة
لا يستطيع أحد الجزم بمدى تأثير الثورة على دور الصوفية السياسية في المشهد السوداني. فهي قد مرت بمراحل سابقة أثرت عليها لكنها لم تقض على نفوذها بشكل نهائي.
وبعد انقلاب الإنقاذ في يونيو 1989 فقدت الأحزاب ذات البعد الصوفي -حزب الأمة و الاتحادي الديمقراطي-. الحكم لكنهم استطاعوا التكيف مع المرحلة بصورة تضمن بقاءهم، اختار المهدي الجنوح للمعارضة.
أما الميرغني فقد انضم للنظام وتحالف معه بعد سنوات من المعارضة. بعد سقوط نظام المخلوع عمر البشير عاد للأنصار وحزب الأمة شيء من نفوذه القديم بعد مشاركته في تحالف قوى الحرية والتغيير الحاكم بعد الثورة.
ولا يوجد مؤشر على انتهاء ظاهرة التصوف السياسي السوداني لأن وجودها مرتبط بوجود الصوفية في السودان. لكن الجيل الجديد قد تجاوز الطبقة السياسية برمتها ويسعى لإعادة تشكيل المشهد السوداني. وهذا ما يؤشر على حدوث تغير واضح خلال السنوات القادمة.
وهنا إشارة إلى أن الأنظمة الاستبدادية في السودان ، دأبت على الاستعانة بقادة الطرق الصوفية في الحشود الجماهيرية المصطنعة لإيهام الرأي العام العالمي بشعبية لحكمهم ، وهي طريقة لجأ إليها قادة انقلاب 25 أكتوبر في محاولة منهم للقراءة من ذات الكتاب الذي قرأ منه المخلوع عمر البشير ونظامه الذي كان يلجأ دائما لورقة "الطرق الصوفية" و"الحشود القبلية" .