[ وعود الرفاه التي أطلقها السيسي غداة انقلابه العسكري عام 2013 تحولت إلى سراب (الأوروبية) ]
مساء الجمعة الـ20 من سبتمبر/أيلول انفتحت لأول مرة ثغرة في الطريق المسدود ولاح ضوء في النفق الطويل للأزمة العميقة التي دخلتها مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فقد تحولت وعود الرفاه التي أطلقها السيسي غداة انقلابه العسكري إلى سراب بقيعة، وعادت المنظومة الحاكمة للبطش بصناعها و"الثورة" لأكل "أبنائها" بعد "الخلاص" من خصومها وأعدائها، وتراجع دور مصر إقليميا ودوليا، واشتدت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وترحم الناس على "أيام الحجاج".
ومن بين الأزمات الكثيرة والمتلاحقة التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة وعلى مختلف الصعد يمكن التوقف عند ما يلي:
الإعدامات والاعتقالات
غرقت مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 في بحر من الدماء، فكانت البداية بمجزرة رابعة، التي أدت إلى مقتل قرابة ألف شخص (وفقا للأرقام الرسمية) وما زال رنين فاجعتها المهول يقرع مسامع التاريخ باعتبارها واحدة من أبشع المقاتل التي حُصدت فيه الأرواح تحت رشاش من النيران الموجهة التي لم تفرق بين امرأة ولا رجل ولا صغير أو كبير.
ووثقت التقارير الحقوقية قتل أكثر من سبعة آلاف مواطن مصري خارج نطاق القانون، منهم أكثر من ألفين قتلوا في تظاهرات وتجمعات السلمية، و717 قضوا داخل مقرات الاحتجاز، وقرابة مئتين بالتصفية الجسدية، وتنفيذ أحكام إعدام مسيسة بحق ثلاثين مواطنا.
كما وثقت تلك التقارير اعتقال أكثر من ستين خلال الفترة الماضية، في حين صدرت أحكام إدانة في قضايا سياسية أمام محاكم مدنية وعسكرية بحق 35183 شخصا، منهم 370 قاصرا، كما صدرت أيضا أحكام بالإعدام بحق 1012 شخصا، والسجن المؤبد لـ 6740 شخصا.
وتصنف منظمات حقوقية فترة حكم السيسي باعتبارها أسوأ فترة قمع سياسي في تاريخ البلاد الحديث، كما تتصاعد التنديدات الدولية أوروبيا وغربيا للانتهاكات القاسية والمتواصلة لحقوق الإنسان.
وتبقى الوفاة المفاجئة للرئيس المعزول محمد مرسي إحدى النقاط السوداء -وفقا لحقوقيين ومعارضين- في الملف الحقوقي، في ظل حالة الغموض التي اكتنفت ظروف وملابسات وفاته، ومنعه من العلاج المناسب خلال فترة سجنه.
عودة الدكتاتورية
أكد الرئيس السيسي وهو يطل في أيام الانقلاب الأولى، أنه جاء ليحمي مكتسبات تلك الثورة من الإخوان المسلمين، ووصف ما قام به بأنه "ثورة ثانية".
ولكن ما جرى لاحقا هو أن السيسي "أنهى الحكم المدني وقضى على أي معارضة سياسية في الداخل وشجع الإعلام على الترويج لـ"عبادة الفرد"، وظل يصف نفسه بأنه "الأول والآخر"، ووضع سلطات أوسع في يد الدولة والشركات التي يديرها الجيش، ويُتوقع حاليا أن يغيّر الدستور ليبقى في السلطة مدى الحياة"، وفقا لصحيفة تايمز.
الوضع الاقتصادي
وإذا كان الوضع السياسي والحقوقي بعد خمس سنوات من حكم السيسي مظلما، فإن الوضع الاقتصادي تدهور هو الآخر بشكل غير مسبوق، حيث ذهبت وعوده في الأعوام السابقة بخفض الأسعار أدراج الرياح.
ورغم ارتفاع الجنيه المصري أمام الدولار خلال الأشهر القليلة الماضية، وتغنّي النظام المصري وإعلامه بهذا باعتباره انتصارا اقتصاديا، فإن ذلك لم ينعكس إيجابا على الأسعار التي تتزايد يوما بعد يوم، وكانت آخر سلسلة من رفع الأسعار قبل فترة وجيزة، عندما رفعت الحكومة أسعار المحروقات.
وعلى مستوى الأرقام، نشر البنك الدولي في أبريل/نيسان الماضي تقريرا أورد معطيات مفادها بأن 60% من المصريين إما فقراء أو عرضة للفقر. كما انخفضت قيمة الناتج المحلي من 335 مليار دولار قبل تعويم الجنيه إلى 230 مليارا في العام الماضي.
وقال اقتصاديون إن السياسات الاقتصادية في عهد السيسي أدت إلى ارتفاع معدل التضخم لمستويات غير مسبوقة، وإن البلاد غرقت في عهده بالديون.
ووفق تقرير لوزارة المالية المصرية لشهر مارس/آذار الماضي، فقد ارتفع الدين العام إلى ما يعادل 107% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبحسب أحدث بيانات للبنك المركزي المصري، ارتفع متوسط نصيب الفرد من الدين الخارجي إلى 906.3 دولارات نهاية عام 2018، مقابل 387.7 دولارا في يونيو/حزيران 2012.
وينتقد اقتصاديون ما يعتبرونها مشاريع عملاقة بدأها السيسي لم تدرس جيدا، على رأسها توسعة قناة السويس التي تم الانتهاء منها على عجل تحت إشراف الجيش.
ويقول الباحث بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط تيموثي قلدس، إن "الركائز الثلاث الرئيسة التي وعد بها هي: الاستقرار والنمو الاقتصادي والأمن، وقد فشل في الثلاث".
ويضيف "وبالتالي فإنهم يخاطرون أكثر.. إذا كان بوسعهم المضي بتوسيع قمعهم لأهداف عليا والإبقاء على الناس تحت السيطرة، فلماذا لا يفعلون؟".
حجم الفساد
كشف المقاول محمد علي في فيديوهاته الأخيرة ما قال إنها وقائع فساد وإهدار للأموال العامة، تورط فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي وكبار قادة الجيش المصري.
وكان هشام جنينة ضابط الشرطة والقاضي السابق الذي عين في عام 2012 رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات المنوط به مكافحة الفساد في مصر، قد كشف عن أرقام مهولة لانتشار الفساد في بلاده.
وقال هشام جنينة للصحفيين في عام 2015 إن الفساد كلف الدولة ستمئة مليار جنيه (68 مليار دولار) في أربع سنوات، وهي تقديرات يقول إنها تستند إلى تقارير رسمية.
الملف الأمني
ويمثل الملف الأمني -وفقا لمراقبين- إحدى زوايا الفشل في عهد السيسي، فالبلاد ما زالت محكومة بحالة طوارئ يتم تمديدها باستمرار، وقد مددت أخيرا للمرة التاسعة على التوالي منذ عام 2017، وجاء تمديدها قبيل يوم واحد من تصريحات للسيسي قال فيها إن الدولة حاصرت "الإرهاب" ودمرت بنيته التحتية.
ورغم سقوط مئات القتلى والجرحى ما زال أهالي سيناء يعانون جراء الحملة التي يقول النظام إنه يشنها على ما يصفها بالجماعات الإرهابية هناك، حيث تشهد من حين لآخر اشتباكات توقع قتلى وجرحى بين الشرطة والجيش والمدنيين، كان آخرها مقتل نحو عشرة أشخاص من عناصر الأمن خلال هجوم على نقطة للشرطة جنوب مدينة العريش قبل أيام.
وتعيش سيناء منذ الانقلاب على الرئيس محمد مرسي صيف عام 2013، معارك بين قوات الأمن ومجموعات مسلحة، أدت إلى مقتل مئات من عناصر الجيش والشرطة.
أزمة مع الداعمين
بعد ستة أعوام من دخوله قصر الاتحادية (القصر الرئاسي)، أصبحت العلاقة متوترة بين السيسي وأبرز داعميه المدنيين من أركان الدولة العميقة، ناهيك عن حالة الغضب الشعبي العام المتصاعدة مع قفزات الأسعار، وتبدد وعود السيسي المتتالية، وظهور فشل مشروعاته الكبرى.
ويمكن القول إن عددا ممن ظهر مع السيسي في مشهد الانقلاب وآزره في فترته الأولى، قد قفز من السفينة وانزوى بعيدا عن المشهد الحالي، أو أبعد بفعل فاعل.
ويبدو غريبا أن يبدد السيسي رصيده لدى تلك القطاعات المهمة التي مثلت غطاء مدنيا لانقلابه العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، وظلت داعمة له خلال العامين الأولين من حكمه، وهما العامان اللذان وعد السيسي بجعل مصر خلالهما "قد الدنيا" أي عظيمة.
ولعل في ظهور المقاول محمد علي وتصديه لنظام السيسي أبرز مثال على حجم التذمر المتزايد في أوساط الدوائر غير المعارضة في الأصل التي كان بعضها جزءا من النظام نفسه.
أزمات الخارج
وعلى المستوى الخارجي، ازداد تراجع الحضور المصري في السياسات الإقليمية والدولية، وكان لافتا أن الإدارة الأميركية اختارت السعودية لتكون عرابة لصفقة القرن، وهو مؤشر دال على حجم تراجع مصر في أهم ملفاتها وأدوارها تاريخيا وإقليميا.
كما ازداد الضغط على مصر في السنوات الأخيرة في ملف سد النهضة الذي يمثل معضلة "وجودية" بالنسبة للمصريين في ظل عجز إدارة السيسي عن حلحلة هذا الملف والوصول إلى تسوية ترضي المصريين وتحفظ حقوق البلد في أهم مصادره المائية.
وانخرطت مصر السيسي في ملفات وأزمات خارجية أضرت بها وباقتصادها ومكانتها الخارجية، منها الأزمة الخليجية التي وقفت فيها إلى جانب السعودية والإمارات والبحرين، وكانت الدولة غير الخليجية الأبرز التي أسهمت في حصار قطر وسعت للتحشيد ضدها عربيا وأفريقيا.
وكانت قضية الشاب الإيطالي جوليو ريجيني الذي اختفى بالقاهرة في 2016 -قبل أن يعثر على جثته ملقاة في صحراء مدينة 6 أكتوبر وبها آثار تعذيب شديدة- إحدى القضايا التي أزمت علاقة مصر مع أطراف أوروبية في مقدمتها إيطاليا، وما زالت حتى الآن قضية عالقة تبحث عن تسويات مفقودة.