بينما يتفقد تلك الأوراق السميكة التي تركت مئات السنين آثارها عليها، يتساءل أخصائي المخطوطات بدار الكتب القطرية حسن إبراهيم بحسرة وألم: كيف لأمة تمتلك هذا الكم من صنوف العلوم ويصل حالها إلى هذه الدرجة؟ فمخطوطات الفقه والأدب والشعر والطب التي تمتلكها الدار شاهدة على عصور نهضة عربية أنارت عقول وقلوب العالم.
فإبراهيم الذي يقضي ساعات عمله بين مراجعة الفهرسة والاهتمام بالمخطوطات يعتبر أن المعرفة التي وصلت لها الأمة العربية قديما لم تستغلها الأجيال الحالية، آملا أن يرى اليوم الذي تعج فيه المكتبات بالزوار باعتبار أن القراءة والاطلاع هما مفتاح التقدم لأي أمة ترغب في النهوض.
التحق بالعمل في دار الكتب القطرية قبل نحو عشرين عاما، تحول عمله من مصدر لكسب الرزق إلى هواية وشغف بالحفاظ على هذا التراث العظيم وحفظه للأجيال القادمة، متمسكا بمبدأ "إذا لم نستطع صناعة المستقبل للأجيال القادمة فلا نفرط في التاريخ الذي ورثناه".
وتعج دار الكتب بمئات الآلاف من الكتب والمخطوطات والدوريات وغيرها من المصادر والمراجع القيمة والنفيسة، وتعد تلك الدار التي أنشئت عام 1962 من أقدم المكتبات الوطنية الخليجية والعربية، فهي تعمل على جمع الإنتاج الفكري القطري والعربي والإسلامي وتوفيره للأفراد والهيئات، بالإضافة إلى خدمة الجمهور وتقديم الإعارة لكافة فئات المجتمع.
وتحتفظ بمخطوطات يزيد عمرها على 850 عاما، تشمل الإرث الحضاري للأمة العربية والإسلامية، حيث تضم بين جنباتها أندر وأنفس المخطوطات القديمة والأصلية التي تغطي فروعا كثيرة من العلوم الإسلامية والعربية، ومن أهمها علوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث والفقه والطب والشعر.
تفسير الثعلبي
ومن أقدم المخطوطات بالدار مخطوط نسخ قبل 867 عاما من كتاب "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" المعروف بتفسير الثعلبي لأبي إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المتوفى سنة 427 هـ 1035م، ومن المخطوطات النادرة والمهمة أيضا مخطوطات للمصحف الشريف نسخت منذ مئات السنين، منها مخطوط بإطارات مذهبة ومزخرفة على هيئة أشكال هندسية ونباتية نسخت عام 900 هجرية (1494/1495م) في 499 ورقة، وهو مجلد بجلدة فارسية مذهبة ومزخرفة.
وتخضع بعض المخطوطات لعمليات ترميم بسبب العديد من العوامل التي تؤثر عليها وتعرضها للتلف، فقد قامت الدار بمعالجة مخطوط تفسير الثعلبي، وأثناء عملية الترميم عولجت كل ورقة حسب حالتها، حتى أصبح في حالة جيدة.
كما تمتلك الدار مخطوط الجزء الأول من "المسند الصحيح" المعروف بصحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، ويضم 51 حديثا، ويقع في 213 ورقة، وتبدأ هذه النسخة من أول الصحيح حتى آخر كتاب الزكاة، وبالدار أيضا مخطوط لديوان المتنبي، كتب بنسخ واضح سنة 632 هجرية (1234/1235م) بجلدة حديثة من الورق المقوى المزخرف، إضافة إلى نسخ من بعض الفرمانات التركية كتبت باللغة العثمانية القديمة، وهي عبارة عن أوامر عثمانية ممهورة بتوقيعات سلطانية، ويصل عدد المخطوطات النادرة إلى قرابة ألفي مخطوطة.
وخلال الفترة الماضية تمكنت الدار من رقمنة العديد من المخطوطات التي تمتلكها عن طريق القيام بتصوير المخطوطات بكاميرات عالية الدقة وإتاحتها على شبكة الإنترنت للمهتمين بهذا المجال في العالم أجمع، إلا أن عمليات الرقمنة لم تشمل كافة المخطوطات بسبب تفاوت حالة المخطوطات والخوف من أي تأثيرات سلبية على أي مخطوط متضرر.
وفي دار الكتب أكثر من 270 ألف كتاب صادر بالعربية، وأكثر من 370 ألف كتاب باللغات الأجنبية، لهذا عادة ما يكون رواد هذه المكتبة من جنسيات مختلفة، ويتقنون لغات عالمية متنوعة وكثيرا ما يجدون ضالتهم في هذا المكان، وهناك أيضا ما يفوق ألف دورية عربية و250 دورية أجنبية، وثمة عدد هائل من الرسائل الجامعية والمذكرات الأجنبية والعربية.
وتتبع دار الكتب القطرية خمس مكتبات فرعية موزعة في سائر أنحاء البلاد تسهم جميعها في إقامة الأنشطة والفعاليات الثقافية والاهتمام بالقراءة والمطالعة والتثقيف، وتشجيع المواطنين والمقيمين عليها.