[ إحدى دعايات المخرج خالد يوسف أثناء ترشحه لانتخابات البرلمان عام 2015 ]
قبل ثورة 25 يناير بنحو عام، كان طاقم العمل بأحد المسلسلات المصرية الشهيرة يعمل على قدم وساق في مدينة شرم الشيخ، واستغرق إعداد موقع التصوير نحو يومين، وأصبح الجميع مستعدين لإشارة البدء من المخرج، وبينما تستعد البطلة التي خلعت الحجاب منذ أسابيع قليلة للتصوير، تلقت اتصالا وقامت بالرد عليه فورا، ثم أعطت الهاتف للمخرج الكبير الذي اصطبغ وجهه باللون الأزرق، ثم قال لمحدثه: حاضر، سنحاول الانتهاء من التصوير بسرعة.
وبعد أقل من دقيقة، تلقي المخرج المنفذ اتصالا وبدا عليه الهلع حين عرف هوية المتصل، وما كان منه إلا أن أنهى الاتصال ثم أقنع المخرج الكبير بإنهاء التصوير سريعا ودون ضجة، "لأن البطلة مطلوبة في جهة سيادية على الفور".
كان المتصل من رئاسة الجمهورية، وكان برفقة الرئيس، وليس لديه وقت طويل للانتظار، وهكذا قال المخرج "فركش" (انتهى التصوير).
لم يكن ذلك المتصل المهم أو ذلك الاتصال فريدا من نوعه؛ فمنذ أقام ضباط يوليو/تموز 1952 علاقة عضوية مع الفن والفنانين باعتبارهم أدوات ترفيه أحيانا و"جواسيس" (مجندين ومجندات) أحيانا أخرى؛ صار الوسط الفني مستباحا تماما لعالم السياسة، وبالتالي فإن ادعاء البراءة الأخلاقية وتأديب المجتمع والفنانين والفنانات من قبل هؤلاء كاذب بالضرورة.
ورغم ذلك، نجحت قصة التسريبات الجنسية للمخرج المصري والنائب في البرلمان خالد يوسف مع فتاتين في سحب بساط اهتمام الشارع المصري ووسائل التواصل الاجتماعي من قضية التعديلات الدستورية المرتقبة -إلى حد كبير- لكن الثمن الذي دفعه المجتمع المصري بالتعامل مع تلك العملة الفضائحية الرديئة قد يكون أكثر فداحة من مجرد تعديلات منتهى من تمريرها كغيرها مما كان من المستحيل طرحه للعلن من قبل في مصر.
ورغم أنه لا يمكن الدفاع عن سلوكيات منحرفة مهما كانت المبررات، فإن السياق العام الذي تم الفضح من خلاله يؤكد أن العملية انتقامية، وتهدف إلى تغيير موقف المخرج من التعديلات الدستورية، وتوجيه رسالة لمن تسوّل له نفسه مستقبلا معارضة السلطة في شأن حيوي بالنسبة لها.
ويتفق كثير من نقاد السينما مع الناقدة المصرية ماجدة خير الله في ضرورة التعامل مع النائب خالد يوسف بشكل مستقل عن سلوكه الشخصي ومحاسبته فقط على مواقفه العامة، حيث أكدت الناقدة على موقع فيسبوك أن الأجهزة المتخصصة في "إيذاء المواطن" تتقاضى مرتبات ضخمة جدا من أجل هذا الغرض، ورغم ذلك تقدم سيناريوهات مستهلكة ومبتذلة، وختمت خير الله بمطالبة ساخرة لتلك الأجهزة ببعض الإبداع في سيناريوهات الإيذاء مقابل المرتبات الضخمة.
أما الكاتب المصري جمال الجمل فيشير في تغريدة عن القضية نفسها إلى خسارات مجانية، قائلا إن تحقيقات النيابة في "فخ خالد يوسف" تتجه إلى "التدمير الذاتي للقضية"؛ فالاتهامات التي أثيرت تسقط تماما حسب ما تضمنته التحقيقات.
وتشير هذه الواقعة وغيرها إلى أن النظام الحالي في مصر يستخدم آليات الإلهاء عبر فضح الفنانين بشكل مبالغ فيه مقارنة بالأنظمة التي سبقته، ونتجت عن ذلك حالة من الاحتقار العميق لكل ما يتعلق بالفن -حتى وإن أقبل عليه الجمهور- وهو ما أهدر جزءا كبيرا من قوة مصر الناعمة، وبينما يخفي كل نظام فشله بكشف قضية لاأخلاقية لفنان أو فنانة، أو حتى بتلفيقها، فإن التركيز الإعلامي عليها يتكفل بتشويه الجميع؛ سواء كانوا مذنبين أو أبرياء.
ورغم تكرار الإعلام الحديث عن المبدعين والفنانين كثروة قومية وقوة ناعمة لمصر، فإن هذه القوة باتت تتعرض في أحيان كثيرة للضرب من الداخل، ورغم أن ذلك كان يحدث في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك فإن بعض الصحف كانت تحاول تدارك الأمور، وكذلك بعض الفنانين الذين استوعبوا ما يقوم به النظام مبكرا.
ومما يذكر في هذا الإطار قرار المخرج الراحل يوسف شاهين أن تكون الفنانة حنان ترك بطلة لفيلمه "الآخر" عام 1999 دعما لها بعد التشهير بها في قضية برأها القضاء منها، لكن بعد أن حققت الضجة هدفها السياسي.
ويضاف إلى ذلك حادث منتصف التسعينيات الأشهر الذي تعرضت خلاله يسرا لما وصفته بالمؤامرة عبر ضابط من حراس عمرو موسى وزير الخارجية وقتها بالتعاون مع صحفي كبير،
حملات الكراهية
ولم تكن حملات الإسقاط والتشويه مقتصرة على قضايا الآداب والفضائح، بل امتدت إلى حملات حسد وكراهية، حيث راج الحديث عن أرقام يتقاضاها الفنانون وبشكل متعمد تم النفخ في الأرقام من قبل المنتجين بهدف دفع الفنانين إلى تقليل أجورهم ووجد النظام أن في الأمر خدمة مجانية له فشجع عليه، إذ كانت الأزمة الاقتصادية طحنت المواطن المصري نتيجة للفساد الذي استشرى.
وبدلا من مواجهة الفساد وفرض سياسات عادلة، قرر النظام أن يدعم مواجهة مجتمعية بين شرائح المجتمع، ولفتت الصحافة نظر الجمهور إلى ما يتقاضاه الفنان، وتعرض وقتها العديد من الفنانين والفنانات للسرقة عبر اقتحام البيوت، حتى أن الفنانة الراحلة وداد حمدي قتلها "ريجيسير" عام 1994 طمعا في ثورة هائلة، لكنه لم يجد للمفارقة ما يسرقه.
وجاءت حملة أخرى من قلب الوسط الفني نفسه، حيث اخترقته قيم الاسترخاص والتجارة بكل شيء، وساد جهل مطبق، وأصبح الهدف النهائي هو المال، وليس العمل الفني المحترم والجميل، وذلك عبر موجة أفلام المقاولات التي انطلقت في مصر، وكانت هي التعبير الفعلي عن فقدان الوسط الفني نفسه لأي قيمة في محاولة الفنانين والفنانات لإنقاذ أحلامهم من السقوط حين توقف الإنتاج، فشاركوا في تلك الأفلام التي كانت عبارة عن شرائط (فيديو) تعبأ بفيلم رديء يتم تصويره خلال أسبوعين على الأكثر لتكون فرصة لعرض الإعلانات التجارية في السعودية، التي كانت تمنع -في ذلك الوقت- عرض الإعلانات التجارية في التلفزيون الرسمي، فكانت تلك الأفلام حلا لمشكلة الإعلانات في المملكة، وقضاء مبرما على الفن السابع، وطردا لجمهوره الذي وجد أفلاما بلا قيمة ولا معنى في دور العرض.
واستطاعت تلك الموجة الرديئة البقاء، باعتبارها تيارا إنتاجيا، خاصة بعد نهاية عصر الفيديو، لتصبح نمطا إنتاجيا يعتمد الاستسهال ويضمن الربح من خلال إنتاج قليل التكلفة عبر منتج منفذ يضمن أرباحه قبل بدء صناعة الفيلم.
استخدام سابق
لم يخترع نظام مبارك جديدا باستخدام الفنانين كما لو كانوا مناديل ورقية، فقد سبقه نظام السادات، ودمر كلا من الممثلتين ميمي شكيب وزيزي مصطفى وبعض الفنانات اللواتي كن أقل شهرة وقتها، وذهبت هؤلاء الفنانات ضحية خلاف بين الزعيم الليبي معمر القذافي والرجل الثاني في نظامه وهو عبد السلام جلود، بينما قادت العملية ونفذتها الأجهزة المصرية.
وهكذا توارثت النظم المعادية للدولة المصرية وللمجتمع قيم العدوان على الممثلين، ودعم ذلك التوجه ما ساد من قيم وضعت الفنان والفنانة في خانة "الخاطئ"، الذي ينتظر منه المجتمع أن يتوب أو ينتظر من الممثلة أن ترتدي الحجاب.
لم يكن الأمر غريبا على حكم "عسكري رجعي" بالضرورة على مستوي القيم، و"انتهازي" على المستوي السياسي، ورغم وجود علاقات سابقة بين السلطة السياسية والفن، وكانت لها ضحاياها أيضا قبل ثورة يوليو/تموز 1952، كان من ضحاياها المطربة "العبقرية" أسمهان والممثلة "الجميلة" كاميليا، إلا أن الصدفة كانت صاحبة الدور الأكبر في حياة وموت الضحيتين، لكن الأمر في ظل حكم "ضباط يوليو" تحول إلى عملية منظمة على يد صلاح نصر ومساعده الذي صار وزيرا للإعلام في ما بعد، ومن ثم أصبح الأمر واقعا معتادا وليس مجرد استخدام ممجوج وحقير للفن والفنانين.