كان حضوره هادئًا ومتزنًا ورزينًا، رغم نبرة صوته الحادة والحاسمة، وعينيه البازغتين المصوبتين نحو الكاميرا بتمكن شديد، والفصلات المحسوبة بعناية بين جمله ومرادفاته، حاملًا رسائل الحرية والعروبة لجمهوره من المحيط للخليج.
رحل عن عالمنا، اليوم، الكاتب الصحافي والإعلامي المصري حمدي قنديل (82 عامًا)، الذي تعلم جيل الصحافيين من مواليد السبعينيات والثمانينيات، الصحافة والسياسة ووجهة النظر من برامجه السياسية، و"نافذته" التي قدم من خلالها سلسلة مقالات رأي في صحيفة "الشروق" المصرية، ومن قبلها في صحيفة "المصري اليوم"، وكتبه التي حكى فيها ما كان بالنسبة له كل شيء.
هاجم الحكام العرب، ورفض عار صمتهم على الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2003، حتى تم إيقاف برنامجه "رئيس التحرير" على الفضائية المصرية، فاضطر للسفر إلى دولة الإمارات لتقديم برنامج جديد بعنوان "قلم رصاص"، قبل أن يتم إيقافه مرة أخرى بعد 5 أعوام، بكى فيها وهو يقرأ على متابعيه كلمات الشاعر المصري فاروق جويدة "هذه بلاد لم تعد كبلادي" فبكى معه الملايين.
وترحم على الشهيد الفلسطيني حسين تيسير دويات، وقرأ له الفاتحة على الهواء، فأمّنت من خلفه الأمة العربية والإسلامية، ولعن الجلادين في كل زمان ومكان، فارتد صدى اللعن صرخات في قلب كل مؤمن بالحرية والحق والأرض.
أهدى له الشاعر فاروق جويدة، كلمات كانت مقدمة بداية برنامجه "قلم رصاص". فكان يطل ويقول "لم يبق لي غير القلم.. هدأ الصهيل وسافر الفرسان.. واستلقت على القاع القمم.. جف المداد وشاخت الكلمات وارتحل النغم.. حين استوى في الأرض صوت الله.. كان العدل دستور الأمم.. فإلى متى نمضي ونشكو حزننا الدامي.. ونصرخ من تباريح الألم.. وإلى متى سنظل نشكي من كل جلاد ظلم.. اطلق جيادك من كهوف الصمت... واحلم.. أجمل الأشياء فينا... صبر إنسان حلم.. الأرض يحييها ربيع قادم... وضمير هذا الكون يسكن في قلم".
ربيع قد أحيا بالفعل الأرض العربية بعد سنوات من توقف برنامجه، أيده وباركه في سلسلة مقالات صحافية كانت موعداً لم يخلفه قراؤه أبداً، لكن خريفاً دامياً كان كفيلاً بوقف عموده الأسبوعي الثابت، واحتجابه عن المشهد الصحافي والإعلامي تدريجياً طيلة سنوات عانى فيها المرض بصحبة زوجته الفنانة نجلاء بدير، صديقة ميدان التحرير.
وكان قنديل صديق الميدان أيضًا، بل كان متحدثًا إعلاميًا باسم الجبهة الوطنية للتغيير التي أسسها الدكتور محمد البرادعي، عام 2010، التي آمنت بأن التغيير لن يتحقق إلا بخروج الملايين للميادين، وقد كان في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
ورغم أنه صدم الملايين، بتأييده الانقلاب العسكري، على أول تجربة مصرية ديمقراطية، في يونيو 2013، فقد احتفظ بالحد الأدنى، من عدم التمادي، في مباركة خطواته التالية.
ولد قنديل بقرية كفر عليم التابعة لمركز بركة السبع، بمحافظة المنوفية، في منزل أسرة من الطبقة المتوسطة، لأبٍ يعمل ناظر مدرسة، وأم متعلّمة، وترجع أصول عائلته إلى محافظة الشرقية، فجده الأكبر قنديل خليل، كان عمدة قرية المحمودية التابعة لمركز ههيا عام 1830م.
وبعد ثلاثة أعوام قضاها قنديل في دراسة الطبّ، قرّر أن يعمل في الصحافة، لينضمّ إلى فريق عمل مجلة آخر ساعة عام 1951؛ بناءً على طلب الصحافي الراحل مصطفى أمين، ليعمل في نشر رسائل القراء مقابل أجر شهري قدره 15 جنيهًا.
في كتابه الأخير بعنوان "عشت مرتين" روى مذكراته منذ ميلاده عام 1936، وعرض تفاصيل دقيقة من تاريخ مصر، التي كان شاهدًا عليها.
تضم المذكرات 26 فصلًا، منها "سنوات التليفزيون الذهبية"، "عصر استعمار المعلومات الجديد"، "الثورة التي خذلها البرادعي"، "مأساة فيرمونت"، "ما أدراك ما الستينيات؟"، "مهنة مستباحة"، "الفلوس تتكلم".