[ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ]
لم تصل العلاقات السعودية الإماراتية إلى مستوى من التناغم الظاهري مثلما وصلته في السنوات الأخيرة. بدت العلاقة بين وليي عهدي السعودية محمد بن سلمان وأبو ظبي محمد بن زايد الحاكميْن الفعليين لبلديهما وكأنها في عز ربيعها، وفي ذروة صعودها وقوتها، رغم ما بين البلدين من خلافات عميقة في التاريخ والإقليم.
ولكن هذه العلاقات التي قدمت في السنوات الماضية بوصفها "نموذجا للتكامل الخليجي" والتعاون العربي، تمرّ اليوم بأخطر مراحلها وأكثرها حساسية بعد "الورطة" التي دخلها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إثر اعتراف السعودية بتورط عناصر من أجهزتها الأمنية والعسكرية في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
أنكرت السعودية في البداية قتل خاشقجي في قنصليتها، وأصرت على أنه غادرها بعد وقت وجيز من دخوله، تنادت دول عربية عديدة -من بينها الإمارات- تدور عادة في فلك السياسة السعودية لإصدار بيانات تنديد باستهداف السعودية، وبعد اشتداد الضغوط العالمية على الرياض اعترفت بمقتل الرجل واتهمت فريقا قالت إنه أرسل للتفاوض مع خاشقجي بإساءة التفويض والمبادرة بقتل الرجل دون توجيه سابق. ومثل ما حدث في المرة السابقة، كانت الدول ذاتها ومنها الإمارات جاهزة لإصدار بيانات دعم وتأييد للموقف السعودي الجديد.
ومع اشتداد الأزمة وتزايد الضغوط على بن سلمان، اتجهت الأنظار بشكل خاص إلى الإمارات للمساهمة في إنقاذ الحليف السعودي من ورطته، خصوصا أنها الأقرب جوارا والأوثق تحالفا وذات نفوذ على الساحة الدولية، ولأنها بالذات ترتبط بعلاقات وثيقة مع عدد من جماعات الضغط في الولايات المتحدة الأميركية التي يأتي منها النصيب الأكبر حاليا من الضغوط على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
هل بدأت الإمارات في الابتعاد؟
كان من اللافت أن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد التزم الصمت خلال هذه الأزمة، وتوارى عن الأنظار العالمية، بل ألغى زيارتين خارجيتين إحداهما إلى فرنسا، كان بالإمكان أن يستغلهما في تخفيف الضغط الدولي عن رفيقه بل "تلميذه"، كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست في مقال سابق لها، حيث ذكرت أن الروابط أو العلاقات التي تجمع وليَّي عهدي أبو ظبي والسعودية هي علاقة المعلم (محمد بن زايد) بالتلميذ (محمد بن سلمان).
ومن المرجح أن بن سلمان كان يعوّل على "معلمه" في الوقوف الحازم إلى جانبه في أزمة عويصة وثقيلة كهذه، لكن الواضح أن الإمارات لم تلق بثقلها في هذه الأزمة إلى جانب السعودية.
ويذهب بعض المحللين إلى أن ابن زايد بدأ في الابتعاد عن صديقه المقرب وحليفه الأوثق بن سلمان بعد أن تضافرت المواقف الدولية على الإشارة إليه وتحميله مسؤولية مقتل خاشقجي، وبعد تصاعد الدعوات الغربية لإبعاده عن ولاية العهد في السعودية.
ويشير بعض هؤلاء المحللين إلى أن الإمارات لم تلق بثقلها خلف السعودية إلا في أزمة قطر ودعم انقلاب مصر، بينما انخرطت معها في تحالفات أخرى لتحقيق مآرب خاصة مثل الحرب في اليمن، ولكن صوتها كان أكثر خفوتا فيما يتعلق بأزمات السعودية على المستوى الغربي، مثل أزمتها مع كندا.
نصيحة إماراتية للسعوديين.. اعترفوا
وفي هذه الأزمة بالذات لم تقم الإمارات -على الأقل حسب ما ينشر في وسائل الإعلام- بتحركات لافتة لتخفيف الضغط على الحليف السعودي، ولم يقم ابن زايد حتى بزيارة دعم للرياض، ولم تخرج المواقف الإماراتية المعلنة من قضية خاشقجي عن دائرة التضامن العام الذي استوت فيه مع دول عربية أخرى أضعف صوتا وأقل تأثيرا في المشهد الدولي.
واقتصرت المساهمة الإماراتية المعلنة على بعض التسريبات والوصفات والاقتراحات التي وجدت صداها سريعا في ردود الفعل السعودية، وفي تغير الرواية السعودية بشأن ما جرى للصحفي جمال خاشقجي.
ففي غمرة الإنكار السعودي لأي معرفة بمصير خاشقجي، ظهر قائد شرطة دبي السابق ضاحي خلفان ليحث السعودية بشكل غير مباشر على تجاوز حالة الإنكار وليقدم لها في الوقت ذاته وصفة للحل، فكتب على صفحته على تويتر "لو افترضنا أن موظفا في القنصلية السعودية في تركيا اعتدى على خاشقجي في خلاف على استصدار شهادة.. أدى ذلك الاعتداء إلى وفاة خاشقجي.. فمن المؤكد أن الشجاعة الأخلاقية التي نعرفها في السعوديين أن يقروا بصحة الواقعة ويقيموا الحد على المعتدي.. ويسلموا جثة المجني عليه إلى ذويه".
وكانت المفارقة أن السلطات السعودية تبنت "المقترح" ذاته، وأقرت للمرة الأولى بمقتل خاشقجي في سفارتها، وأرجعته إلى حصول خلاف بين خاشقجي والفريق المفاوض.
ولكن "التوجيه الإماراتي" لم يقف عند هذا الحد، فقد استبق المغرد الإماراتي الشهير حمد المزروعي -القريب من دوائر صنع القرار في أبو ظبي- القرارات الملكية السعودية فجر السبت الماضي بإعفاء مسؤولين، وقبل أن يعلم أحد بأن هناك قرارات ستصدر بالتغريد "ترقبوا.. لا حد يرقد".
شركاء التأزيم
اتجهت بوصلة الإمارات في السنوات الأخيرة نحو الارتباط الوثيق مع السعودية، وبحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز فقد كان قادة الإمارات يأملون أن يتمكنوا، من خلال مواءمة خططهم مع جارتهم الأكبر والأكثر ثراء، من الاستفادة من ثقل المملكة لتحقيق مصالحهم.
كما يرتبط البلدان -وفقا للتقرير ذاته- في مسارات أخرى من بينها الحرب في اليمن ضد الحوثيين، واتحد البلدان كذلك في محاولتهما لقمع الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وتدخَّلا في مصر وليبيا لمحاولة إلحاق الهزيمة به.
وتشير الصحيفة إلى أنه بينما تسبب الضرر الذي لحق بسمعة السعودية بجعلها شريكا أقل جاذبية، فإن اعتماد الإمارات على تلك العلاقة أكبر من أن تقطعها. وتنقل عن محلل شؤون الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية إميل الحكيم قوله "بالنسبة إلى الإمارات، فإن الشراكة مع السعودية ذات طبيعة إستراتيجية".
ويشير الحكيم إلى أن الإمارات استثمرت في محمد بن سلمان تحديدا، الذي تتوافق رؤاه المحلية والإقليمية مع رؤيتها أكثر من أي عضو آخر في العائلة المالكة السعودية. لذا، فهو ليس استثمارا يمكن أن يحذفوه كقيمة غير قابلة للاسترداد، ولكن في الوقت نفسه أصبحت الجوانب السلبية المتعلقة بالسياسة والسمعة لعلاقة الإمارات مع الأمير بن سلمان أوضح، وستكون إدارة هذا الأمر هي المشكلة من الآن فصاعدا بالنسبة للإماراتيين.
وبغض النظر عن مستقبل العلاقات بين الطرفين، فمن الراجح أن ما بعد مقتل خاشقجي لن يكون مثل ما سبقه، سواء على المستوى الداخلي في السعودية أو على مستوى علاقاتها الإقليمية والدولية.
وإذا كان الناشط الإماراتي حمد المزروعي نصح الجميع ليلة السبت الماضي بأن لا يناموا، فمن الراجح كذلك أن هناك أسبابا أخرى لعدم النوم، فعشرات النشطاء بالمملكة باتوا يخشون مصيرا مثل مصير خاشقجي الذي غرد بهدوء ورزانة عن المشهد السعودي فاستحق -في الزمن السعودي الجديد- قص الجناحين، والأكيد أيضا أن القتلة المفترضين ومن أصدر لهم أمرا لا ينعمون بالنوم ولا راحة البال وسط أزمة سياسية عالمية تضيق دائرتها على العنق الملكي في السعودية كل يوم.