يرى البروفسور نيك باتلر رئيس معهد كينغز للسياسات في “كينغز كوليج” بلندن، أن هناك مؤشرات حول عودة السعودية إلى السياسة التقليدية بعد سلسلة من التحركات المشوشة قامت بها قيادتها في الآونة الأخيرة.
وفي مقالة بصحيفة “فايننشال تايمز″، أشار باتلر إلى التحركات المرتبكة للمملكة بشأن خفض انتاج النفط رغم الحديث العام عن زيادة انتاجه، فيما تم تأجيل وضع أسهم من شركة النفط السعودية “أرامكو” في السوق المالي لأجل غير محدد، وتحضر الأخيرة مترددة لشراء شركة الكيماويات التي تسيطر عليها الدولة (سابك)، بالإضافة إلى النزاع غير الضروري الذي أثارته السعودية رداً على تصريحات كندا حول حقوق الإنسان، أما التحرك الأخير فهو الحديث عن تمويل الصندوق السيادي السعودي شركة السيارات الإلكترونية “تيسلا” التي يريد صاحبها إليون ماسك تخصيصها، ولا يعرف إن كانت السعودية ستمول العملية أم لا.
ولتفسير ما يجري، يرى باتلر أن هناك ثلاثة سيناريوهات يتم تداولها، الأول هو مرض الملك سلمان أو عجزه بشكل يفقده وابنه ولي العهد السيطرة الكاملة على مقاليد القرار، التي تترك في هذه الحالة لمؤسسات الدولة التي تدير البلاد دون قيادة واضحة.
أما الثاني فهو أن الأمير محمد بن سلمان قرر تسريع جهوده وتطبيق خطته الطموحة “رؤية 2030″ والتي أعلن عنها عام 2016.
ويدور الثالث إنه، خلافاً لما تريده القيادة، فإن هناك مجموعة تمثل العائلة المالكة والمسؤولين والدبلوماسيين تتراجع عن رؤية 2030، وتعيد البلد إلى المدخل التقليدي الحذر الذي يضمن بقاء عائلة آل سعود في الحكم.
وبالنسبة للسيناريو الأول يقول باتلر إنه يقوم على الشائعات ولا أساس له فالأمير محمد بن سلمان معروف بتصرفاته العشوائية.
أما عن تسريع ولي العهد جهوده لتطبيق رؤيته 2030 وهو السيناريو الثاني فيعتقد الكاتب أنه غير محتمل، نظراً لفشل الحكومة بالوفاء بأي من الخطط الكبرى التي أعلنت عنها في عام 2016، فلم يحدث أي تنويع للإقتصاد الذي يواصل اعتماده على النفط. ولم يبدأ العمل على مدينة نيوم التي ستكلف 500 مليار دولار في شمال- غرب البلاد، وفوق كل هذا لا توجد أموال فائضة، فزيادة أسعار النفط كانت مساعدة بدرجة محدودة بسبب تخفيض انتاجه وانكماش النمو الإقتصادي بنسبة 0.7% العام الماضي. والتطور الحقيقي الوحيد هو قدرة النساء المحظوظات على قيادة السيارة بعد رفع الحظر عنهن.
ويعتقد باتلر أن السيناريو الثالث هو الأكثر احتمالاً، أي عودة السعودية للمدخل التقليدي والحذر، والدليل على هذا هي صفقة أرامكو/سابك التي تولد المال لا اقتراضه بدلاً من المخاطرة بييع أرصدة أو خسارة السيطرة. وتقوم أرامكو باقتراض المال من أجل الشراء ثم تقدمه إلى الحكومة باعتبارها مالكة لسابك، وهذا أفضل من طرح أسهم الشركة في السوق العام ويحفظ ماء الوجه حال تم تقييم الشركة بما بين 800- 900 مليار دولار بدلاً من تريليوني دولار أو أكثر، الأمر الذي يريده بن سلمان. فقد تم التخلي عن الفكرة التي تريد تحويل أرامكو إلى شركة خاصة، وفي سوق النفط عادت السعودية إلى دورها كمنتج متأرجح والحفاظ على سعر برميل النفط بحدود 70 دولاراً، ومع زيادة الإنتاج في أماكن أخرى، مثل الكويت مثلاً، فستتمكن السعودية موازنة السوق من خلال إنتاج قليل كما تقترح أرقام شهر تموز/يوليو.
ويقول باتلر إن السعودية أظهرت مستوى من الواقعية فيما يتعلق بالغاز الطبيعي والحاجة لواردات كبيرة منه، ولكن المدخل الجديد يتجاوز مسألة النفط إلى السياسات الداخلية فهناك تراجع عن سياسة تخفيض عدد العاملين في القطاع العام والذي يعد من أهم طموحات رؤية 2030 فالإعلان عن خلق 500.000 وظيفة جديدة لتخفيض البطالة دليل على هذا.
ويقترح الخلاف مع كندا أن القمع ضد المعارضة في الداخل أهم من قضايا حقوق الإنسان وصورة المملكة في الخارج، وفي موضوع شركة تيسلا فالأمر يتعلق بالولايات المتحدة لا السعودية، فقد أعلن عن الصفقة المنظورة تاسك نفسه ولم يصدر تأكيد من المسؤولين السعوديين، والسؤال هو من سيستفيد من فكرة استثمار السعودية في الشركة؟ لكن العودة للمدخل التقليدي يحتاج إلى طريق طويل ويقتضي خطوات قادمة محتملة من مثل وقف الحرب في اليمن التي كشفت عن ضعف الجيش السعودي، وكشفت المواجهة مع إيران أن السعودية ليست في موقع لمواجهتها في نزاعات المنطقة، ونهاية النزاع الذي لا معنى له مع كل من قطر وكندا والعودة للسياسات البراغماتية التي تبناها الملك عبدالله.
ويختم بالقول إن المجتمع السعودي معقد بقيادة متطورة وواقعية أكثر مما يتخيل البعض، وكانت السنوات الثلاث الماضية انحرافاً نحو عبادة الشخصية الغربية على ثقافة المجتمع المحافظ الراغب بالحفاظ على نفسه، وتحتاج السعودية للإصلاح ولكنه لن يتحقق عبر المشاريع العظيمة، كما أن العودة للمدخل التقليدي لن تكون سهلة ولكنه قد يعيد الاستقرار للمنطقة وسوق النفط العالمي.