لبضع ساعات، على الأقل، نسي المصريون حياتهم. ففي ليلة الأحد 10 أكتوبر/تشرين الثاني، عمَّت الأفراح والاحتفالات شوارع المدن المصرية بشكل لم تشهده البلاد منذ عام 2010، بعدما هزم منتخب مصر الوطني منتخب الكونغو 2-1، ليعلن مشاركته الرسمية في مونديال روسيا 2018 لأول مرة منذ 28 عاماً.
آخر احتفالات من هذا النوع شهدتها مصر كانت بداية عام 2010، عندما توج منتخب بلادهم ببطولة كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم للمرة الثالثة على التوالي. منذ ذلك الحين لم تشهد شوارع القاهرة فرحة اجتمع عليها كافة المصريين بمختلف توجهاتهم وطوائفهم.
أضاءت الألعاب النارية سماء العاصمة، وانطلق دويُّ الأبواق عبر الشوارع المكتظة، في سيمفونية صاخبة في بلد يحب كرة القدم إلى حد الجنون.
كان المصريون يبحثون عن مثل هذا الشعور بشدة. فلقد أصبحت حياتهم صعبة جراء مشكلات اقتصادية وتراجع حساباتهم المصرفية، نتيجة لارتفاع الأسعار وخفض الدعم حين طبقت الحكومة المصرية التدابير التي طالب بها صندوق النقد الدولي.
ومن الناحية السياسية، تشهد مصر قمعاً هو الأشد من نوعه من أي وقت مضى. سجنت حكومة عبد الفتاح السيسي عشرات الآلاف من المعارضين، ومنعت المظاهرات، وحظرت مئات المواقع على الإنترنت لخنق كل أشكال المعارضة. كما تصاعدت عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب الذي تمارسه قوات الشرطة.
أضف إلى هذا حالة من الانقسام غير المسبوقة في النسيج الاجتماعي للمجتمع المصري، منذ انطلاق ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وما صاحبها من خلافات -دموية في بعض الأحيان- بين مؤيدين ومعارضين، لمختلف أنظمة الحكم والرؤساء.
كما وقعت في العامين الأخيرين هجمات إرهابية عديدة، لا سيما ضد الأقلية المسيحية في البلد، مما أسفر عن مقتل المئات. وقد أعلن تنظيم تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، ومقره في منطقة شمال سيناء، مسؤوليته عن معظمها.
تقول سلمى شومان، 28 عاماً، المخرجة السينمائية المساعدة، في تصريحات لصحيفة واشنطن بوست الأميركية: "بالنسبة لي، مصر تؤلمنا كثيراً، ونحن لسنا سعداء أبداً. الشعب يستحق أن يكون سعيداً، حتى ولو لليلة واحدة".
بعد المباراة، تجمَّعت الحشود المحتفلة في ميدان التحرير وسط القاهرة، والتَحفَ العديد من المحتفلين برايات بلون علم مصر. كانت تلك الساحة مركزاً للثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، لكن اليوم يمنع فيها أي تظاهرات أو تجمعات.
تقول شومان "عندما رأيت الناس يحتفلون، كنت سعيدة جداً برؤيتهم يبتسمون. حتى رأيت الاحتفالات في ميدان التحرير، عندها شعرت بالألم. أصبح رمز الثورة احتفالاً بنصرٍ مزيف. كانت المباراة مجرد إلهاء عن كل الحزن والسلبية".
وكان هيثم رفاعي، وهو مصرفي يبلغ من العمر 40 عاماً، في الملعب يشاهد ضربة الجزاء التي حجزت مكاناً لمصر في روسيا لكأس العالم 2018. كانت آخر مرة شاركت فيها مصر في منافسات تلك البطولة في عام 1990 في إيطاليا.
عاد الرفاعي إلى البيت في الثالثة صباحاً، وذهب إلى العمل في السابعة "مشرقاً وسعيداً" وغير قادر على التفكير في "أي أعباء، سواء أكانت اقتصادية أو غيرها".
يقول لصحيفة واشنطن بوست أيضاً: "هذا هو الفرح الأكبر الذي شعرت به في حياتي بعد ولادة ابني".
وقال إنه كان يجلس حوله مصريون من جميع الفئات. كان هناك الأغنياء والفقراء، وكبار السن والشباب. وكان بعضهم من ذوي اللحى الكثيفة، وارتدت بعض النساء الحجاب الإسلامي. ويضيف: "كان الجميع يعانقون بعضهم البعض. كاد المشهد أن يكون خيالياً. إن كرة القدم لا تفصل الناس عن الواقع. إنها مجرد مسكن ألم لبضع ثوانٍ. وأتمنى فقط لهذا الانتصار أن يدفع هذا البلد إلى خلق المزيد من الفرح".
رأى البعض الانتصار مفيداً، حتى ولو للحظة.
ولم يقتصر الاحتفال على المدن المصرية فقط، بل امتدَّ إلى الدول العربية ذات الجاليات المصرية الكبيرة، مثل الإمارات وعمان وقطر.
وصرَّح الصحفي الرياضي محمود مصطفى (28 عاماً)، الذي كان طفلاً رضيعاً عندما لعبت مصر في كأس العالم المرة الماضية، أن الانتصار "صحيٌّ للناس الذين يتعرَّضون للاضطهاد الشديد".
وأضاف مصطفى: "إذا لم يكن لديك أية وسائل للتعبير عن المعارضة، ناهيك عن إجراء تغيير حقيقي، فإن هذه اللحظات السعيدة تحافظ على عقلك. تجعلك تستعيد هذا الشعور المفقود بالأمل. لا أستطيع أن أغفر لأولئك الذين قتلوا آمال الماضي، ولكني أستطيع أن أهتف للفريق الذي يهتفون له. لا يمكن لأحد أن يمتلك كرة القدم، كرة القدم هي التي تتملّك الناس".
وقال مصريون آخرون في مقابلات، إن الانتصار قد يجعل المزيد من مواطنيهم وطنيين، في حين قال آخرون بسخرية، إنها كانت فرصة للحكومة لإلهاء الناس عن المشكلات التي تواجه البلاد.
لكن عندما أعلن السيسي أن كل لاعب في الفريق سيحصل على 1.5 مليون جنيه مصري -نحو 85 ألف دولار- كمكافأة للفوز، شعر كريم الديب أن النشوة لن تستمر طويلاً. وقال كريم البالغ من العمر 33 عاماً: "إن العديد من الناس عبروا عن غضبهم، قائلين إنها مضيعة للمال، بينما نحتاج إلى الغذاء والدواء".
وقال المهندس خالد الكيلاني (29 عاماً): "إن هذا الفوز يمكن أن ينسي الناس ساعتين أو 24 ساعة. ولكن حين يعودون لدفع المال لشحن الهاتف المحمول أو فاتورة الكهرباء، أو أي التزامات مالية أخرى، سوف يدركون مرة أخرى وضعنا السيئ. لا يمكن فصل الناس عن الواقع".