ربما يعدّ المشهد النازي من أكثر مظاهر التناقض التي شابت أفكار هتلر بشأن تفوق العرق الآري، فقواته المسلحة النازية التي جابت أوروبا شرقاً وغرباً، وأشعلت شرارة الحرب العالمية الثانية، بدأت بجيش ممن سماهم هتلر بالعرق النقي، جميعهم ألمان تماماً من ناحية الأب والأم وانتهت بمقاتلين من أعراق مختلفة تقاتل معه فقط بهدف إنجاح حربه.
فمع اتساع رقعة المعركة، وكتعويض للنقص في الجنود والعتاد، بدأ الألمان يوسّعون مفهومهم عن الأعراق المقبولة، والتي بإمكانها القتال في صفوف الجيش النازي، لكن ظل الاستثناء الوحيد من هذا التوسع هم اليهود والزنوج.
الكتيبة الثالثة عشر.. مسلمو الجيش النازي
تكونت تلك الكتيبة من الجنود المسلمين في إقليم البلقان، وكانت مهمتهم الأساسية هي الحفاظ على الأمن والاستقرار في يوغوسلافيا، والمناطق الخاضعة لسيطرتها. تكوّن شعار الكتيبة من سيف معقوف؛ نسبة إلى السيف التركي الشهير الذي كان يُستخدم في تلك المنطقة حين كانت خاضعة للدولة العثمانية.
وهي أول كتيبة غير ألمانية تقاتل ضمن قوات الصاعقة (شوتزشتافل)، وهي قوات النخبة في الجيش النازي، تحت القيادة المباشرة لهاينريتش هيملر، وتكوّنت معظمها من جنود بوسنيين مسلمين.
كانت لدى هيملر وجهة نظر مختلفة عن بقية القادة النازيين حول الإسلام والجنود المسلمين، وقد كان أحد أكثر القادة مرونة في تقبلهم، ودمجهم، والاستفادة بهم في المعارك التي يصعب إشراك الجنود الألمان فيها؛ فقد انبهر هيملر بتعاليم الدين الإسلامي، واعتقد عن قناعة تامة أن الإسلام يصنع جنود لا يهابون الموت، تلك الاعتبارات مشابهة للتي تشكّلت بها كتائب أخرى من جنود بوسنيين مسلمين، قاتلوا في جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية في الحرب العالمية الأولى.
خاض جنود تلك الكتيبة معركة ضد القوات السوفييتة في منطقة البلقان في محاولة لمنعهم من التقدم، وقد كانت الغلبة لهم، ولكن مع اشتداد قوة الجيش الأحمر خاصة بعد معارك ستالينجراد وكورسيك، ومعارك أخرى انتصر فيها السوفييت على النازيين، أصبح الجنود في موقف الدفاع حتى دحرهم السوفييت إلى حدود النمسا.
سلاح البروباغاندا يعمل مجدداً
مع وصول الحرب لذروتها في عامي 1941 و1942، ومع تقدم قوات هتلر في المناطق ذات الأكثرية المسلمة في شمال إفريقيا، والبلقان، والقرم، والقوقاز، والشرق الأوسط، ووسط آسيا، بدأ المسئولون في برلين ينظرون إلى الإسلام كسلاح سياسي مهم يجب الاستفادة منه بشتى الطرق.
لذا سعوا جاهدين إلى إبرام تحالف مهم للعالم الإسلامي ضد أعدائه؛ لأن القوات الألمانية تكبدت خسائر في العتاد والأرواح، واعتقدوا بأن الجيش ليس في استطاعته القتال على عدة جبهات في وقت واحد، فكان من الضروري الاستفادة من عناصر إضافية تقاتل في صفوفهم.
بدأت الدعاية الألمانية تثني في نشراتها عبر الراديو والصحف على المسلمين، وصرّح هتلر بنفسه أكثر من مرة بإعجابه بالإسلام، وقال أنه لو لم يخسر الجنود المسلمون في معركة بلاط الشهداء لساد الإسلام كُل أوروبا.
لكن كانت هناك أصوات معارضة ترى أنه لا فرق بين هتلر وبين الإنكليز أو الفرنسيين، وقد كان أحد أشد المعارضين للنازية وأفكار هتلر العنصرية هو المفكر المصري عباس محمود العقاد؛ حيث رأى أن تقربه من الإسلام والمسلمين هو مجرد حيلة سياسية يستخدمها لكسب الحرب ضد أعدائه في الحرب.
هل كان ضمّهم فعلاً براغماتية بحتة من هتلر؟
ينظر الكثير من المؤرخين إلى علاقة النازيين بالإسلام، وقبولهم بجنود مسلمين للقتال باسمهم، كمجرد لعبة سياسية استغلها الألمان لتحقيق مكاسب أكبر في الحرب؛ فقد حدث نفس الأمر في الحرب العالمية الأولى حين كانت الإمبراطورية الألمانية والدولة العثمانية حلفاء، لدرجة أن الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني كان يلقب في إسطنبول بالحاج فيلهلم.
كانت هناك بوادر لحسن النية تجاه المسلمين من القادة النازيين، مثل ما فعله إروين روميل في التاسع عشر من ديسمبر عام 1942، حين انسحبت قواته حتى وصلت إلى مدينة تونس، لكن صادف حينها دخول عيد الأضحى المبارك، فوفّى روميل بوعده لحاكم المدينة "محمد المنصف باي" بوقف جميع أعمال القتال احتراماً لمشاعر المسلمين خلال أيام العيد.
ومع اقتراب الحرب من نهايتها، وقد أصبح جلياً أن هزيمة النازيين تلوح في الأفق، انسحب الكثير من الجنود، وعادوا إلى حياتهم السابقة في البوسنة، في حين عاد بعضهم إلى ألمانيا يدافعون مع بقية الجنود الألمان، وانسحب آخرون إلى الغرب، وفضلوا أن يكونوا أسرى لدى الحلفاء الغربيين بدلاً من أن يأسرهم السوفييت.