يعد التنوع العرقي في دولة إيران أحد أبرز المظاهر التي يتصف بها مجتمعها البالغ تعداد سكانه حتى هذا العام 2017 حوالي 79,926,270 نسمة[1]؛ حيث تشكل الأقليات العرقية حوالي نصف السكان، بينما تستأثر القومية الفارسية بالنصف الآخر، ويكتنف هذا التنوع تنوع آخر في الدين والمذهب والطائفة، مشكِّلاً ذلك معضلة معقدة تؤرق الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على إيران، التي تتعامل مع المطالب الحقوقية لمكوناتها بكافة أشكال العنف.
تركيبة عرقية معقدة:
تقدِّر مصادر أمريكية الأقليات العرقية في إيران خلافاً لما تورده المصادر الإيرانية، لكنها أقرب إليها من سواها؛ حيث تشير هذه المصادر إلى أن الأذريين يمثلون 24%، والجيلاك والمازندرانيون 8%، والأكراد 7%، والعرب 3%، واللور 2%، والبلوش 2%، والتركمان 2%، في حين تمثل أعراق أخرى نسبة 1%[2]. غير أن مصادر أخرى تقدِّر الأقليات العرقية في إيران بنسب ذات فوراق متباينة عما سبق ذكره، متضمنة بعض الأقليات الخاملة؛ حيث تشير إلى أن الأذريين يمثلون 18%، والأكراد 10%، والجيلاك 6%، والمازندرانيون 4%، والعرب 2.4%، واللور 4%، والبختياري 1.9%، والتركمان 1.6%، والأرمن 0.7%[3].
تتصف الأقليات العرقية الإيرانية، وَفْقاً لهذا التوزيع، بالتعقيد الشديد فيما بينها، وهو تعقيد ينطوي على تعقيد آخر داخل كل أقلية على حدة؛ بفعل تعدد اتجاهاتها التي تتحكم بها لغاتها، وعقائدها، ومذاهبها، وثقافاتها، وطموحاتها السياسية، وانتماءاتها الجغرافية، وهذه الأخيرة تشكل تحدياً كبيراً أمام بقاء وحدة إيران؛ إذ إن كل إقليم ذي عرقية معينة، قد يجد نفسه أمام فرصة تاريخية واستحقاق نضالي لتكوين كيان سياسي مستقل عن الهوية الإيرانية.
هويات بين الفرض والرفض:
بناء على ما يثيره هذا التنوع من قلق على تماسك كيان الدولة الإيرانية، كان من أولويات نظام ثورة الخميني عام 1979 السعي إلى فرض نظام ولاية الفقيه الذي يرمي إلى التخلص من مشكلة تعدد القوميات؛ حيث استهدف بشكل رئيس القوميات المعتنقة لمذاهب أخرى غير المذهب الجعفري الإثنا عشري، الذي يمثل المذهب الرسمي الدولة[4]، واستهداف معتنقي الديانات الأخرى غير الدين الإسلامي، بقصد صهرها في بوتقة ولاية الفقية[5]، بما يعزز سيادة الهوية الإيرانية الجامعة على ما سواها؛ ليس في مواجهة أزمة الداخل فحسب، بل أمام التحديات التي يثيرها تجانس وتماسك هوية جيرانها العرب.
فبعد عام 1979 بدأ سعي النظام الإيراني إلى الحد من أي نزعة قومية داخلية لدى القوميات التي تعتنق المذهب الشيعي، من خلال تعزيز سيطرة المؤسسة الدينية داخل هذه القوميات، إلا أنه في ظل تعدد الإثنيات وتماسك هويتها، ظلت عملية إدماج الهويات المختلفة في الخطاب السائد داخل الهوية الإيرانية أمراً بالغ الصعوبة، فضلاً عن الهيمنة الفارسية الغالبة في العدد والثقافة ومفاهيم موارد السلطة؛ فهم بالفعل اللاعبون الأساسيون في تشكيل الهوية الإيرانية؛ ومع ذلك فالمجموعة الفارسية ذاتها تعاني صراعاً داخلياً حول مفهومها الخاص عن الهوية؛ حيث يتجاذبها خطابان؛ قومي وإسلامي.
أدت محاولات الإدماج إلى تعقيد أكبر في الهوية الوطنية، غلب عليه طابع التنافر، وظل ذلك بارزاً في العديد من المحطات التاريخية، وعادة ما كان ذلك يقود إلى تحولات حادة في مفاهيم النظام والهوية الوطنية على حد سواء. فخلال القرن العشرين ساد الخطاب القومي الإيراني الممجِّد للتراث الفارسي الذي كان سائداً في حقبة ما قبل وصول الإسلام إلى بلاد فارس، بوصفه المصدر الأصيل لهويتها، وكان من مرامي ذلك بعث الشعور بالقومية الفارسية ثقافة ولغة، وهو ما أبرز مشاعر العداء للقوميات الأخرى وللإسلام ذاته، فانحصرت إيران في انتماءات جغرافية معينة وشعور معين تجاوز ذاتها الجامعة المتنوعة.
صراع دائم وغير متكافئ:
يشكل التمييز الممارس على الإقليات العرقية التي تقطن بقاعاً جغرافية خاصة بها في كثير من الدول، دافعاً لتقرير مصيرها في إطار كيان سياسي مستقل عن الدولة التي ألحقت بها، أو على الأقل الحصول على فرص عادلة في المشاركة في الثروة والسلطة في إطار هذه الدولة. وقد أثار، على سبيل المثال، الأكراد في غرب إيران، وعرب الأحواز في جنوبها، والبلوش في شرقها، مسائل من هذا النوع على مدى عقود، إلا أن التعاطي الأمني العنيف مع حركاتهم السياسية المنادية بالاستقلال أضعف من نشاطهم.
فالأقلية الكردية، التي يقطن غالبية أبنائها الجزء الغربي من إيران، وتحتل المرتبة الثالثة في العدد بين الأقليات العرقية فيها لها تاريخ طويل من الكفاح ضد الإلحاق القسري والتمييز الممارس بحقها، الساعي إلى طمس هويتها، بتحريم التعامل بلغتها وتغيير أسماء قراها ومدنها، والتهجير القسري منها[11]؛ فمع تصاعد مطالبها الحقوقية القومية والتاريخية، عادة ما يواجه النظام الإيراني ذلك بالقمع وتكميم الأفواه؛ وبالمقابل خاض الأكراد معها مواجهاتٍ عنيفةً عبر تنظيمات معارضة ذات ثقل سياسي منذ أربعينيات القرن الماضي[12] إلى الحد الذي دفع الخميني إلى إعلان الجهاد عليهم[13]، فوقعوا تحت رحمة أشكال مختلفة من عسف رجاله، الذين مضوا في انتقاص حقوقهم وحرياتهم، واغتيال وإعدام واعتقال وتشريد العديد من المعارضين السياسيين.
بالمثل، يشغل عرب الأحواز خوزستان، الذين تقطن أقليتهم المناطق الواقعة على الحافة الشرقية للخليج العربي، حيزاً آخر في صراع الأقليات العرقية الإيرانية؛ فهم ليسوا بمعزل عن نضال الأقليات من القوميات الأخرى، التي تواجَه بالقمع السلطوي الإيراني، رغم أن معظم عرب الأحواز يعتنقون المذهب الشيعي، خلافاً لعرب الجزر والموانئ الشمالية الإيرانية في الخليج العربي الذين يعتنقون مذاهب أهل السنة. ولقد بلغ من عسف النظام الحاكم أن فرض اللغة الفارسية لغةً رسمية للتعلم بدلاً عن اللغة العربية في هذه المناطق، ومارس ضدهم أشكالاً مختلفة من طمس الهوية العربية[15]، وقد أفرزت هذه الممارسات حالة دائمة من التجاذب الخشن المتبادل والمستمر منذ سيطرة الشاه رضا خان على الإقليم عام 1925 حتى الوقت الراهن.
ثالث الأقليات العرقية التي تقض مضاجع سلطات طهران، البلوش الذين يقطنون إقليم بلوشستان الواقع على حدود إيران مع باكستان وأفغانستان، الذي تقدر مساحته الملحقة بإيران 70 ألف ميل مربع. أما عدد السكان فمليون نسمة، يعانون من محاولات طمس هويتهم القومية، وملاحقة زعمائهم المعارضين، والإهمال الممنهج في المجالات التنموية في الإقليم[17]. وهي كغيرها من الأقليات لها كيان معارض للسلطة ينادي بحقوقها؛ فهنالك حركة سياسية مناوئة، هي حركة "جند الله" البلوشية السنية، وهنالك عمل مقاوم على الأرض، بلغ حداً من الجرأة والإقدام أن دفع هذه الحركة إلى تنفيذ محاولة لاغتيال الرئيس أحمدي نجاد أثناء زيارته الإقليم عام 2005، في عملية محكمة لا تقل عن عمليات أخرى أودت بحياة العشرات من ضباط المخابرات والجيش الإيراني.
بطبيعة الحال، لا تتسع حدود هذا المقال لاستعراض بقية الأقليات العرقية في إيران، كالأذريين الذين تشكل أقليتهم واحدة من أكثر هذه الأقليات، وكذا التركمان، والجيلاك، والمازندرانيين، واللور، والكيلانيين، والبختياريين، والأرمن، بالوقوف على طبيعة هذه الأقليات، ومعرفة حالة انعدام الوفاق القائمة بينها وبين السلطات الإيرانية، وإن كانت لا تختلف عن مثيلاتها من الأقليات؛ فمطالبها المشروعة مرفوضة، والتنكل بزعمائها المعارضين قائم[19]، كما أن أغلب هذه الأقليات تمارس نشاطها السياسي من خارح الحدود، وتعرضت لأشكال من القمع والاضطهاد، لكن نشاطها ما زال في تصاعد رغم شح إمكانيتها.
نموذج من التمييز المقنن:
في ملمح يسير حول ما تتعرض له الأقليات العرقية؛ يعاني العرب والأكراد والبلوش المعتنقين للمذاهب السنية، على حد سواء، وضعاً مأساوياً مركباً. فمع كونهم أقليات عرقية تشعر بالتمييز والانتقاص في الحقوق، تتضاعف معاناتهم لكونهم أقليات سنية؛ إذ على سبيل المثال: يقيم في طهران أكثر من 500 ألف مسلم سني، لكنهم لا يستطيعون إقامة مسجد واحد يجمعهم في مناسباتهم الدينية الكبيرة وغيرها. وقد برر ذلك، بقياس فاسد، المرجع الشيعي الإيراني مصباح يزدي بقوله: "متى ما سمح لنا ببناء حسينية في مكة، عندئذٍ سوف يسمح لهم ببناء مسجد في طهران"[21]، متجاهلاً أن هؤلاء مواطنون إيرانيون بحكم الواقع، كما أنه حق دستوري، رغم ما يكتنف هذا الحق من انتقاص وتقييد في الدستور نفسه.
من مظاهر الانتقاص تلك، أن الدستور الإيراني لا يتيح لمعتنقي المذاهب السنية من أي قومية الترشح لمنصب رئيس الجمهورية؛ إذ اشترط الاعتقاد بالمذهب الرسمي للبلاد، وهو المذهب الجعفري الإثنا عشري[23]، وسيظل هذا الاحتكار قائماً، ما لم يحدث تحول سياسي عنيف في البلاد، يفضي إلى تغيير الدستور تبعاً لتغيير النظام بكامله؛ لأن المادة 12 منه التي حددت دين الدولة ومذهبها، أكدت بالقول: "وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير". ومن هنا انعكست المعاملة سلبياً على الحقوق السياسية للأقليات، خاصة الأقليات المعتنقة للمذاهب السنية؛ حيث حُرم أبناؤها من تولي مهام قيادية في الجيش والحكومة وأجهزة السلطات المحلية، بما في ذلك أجهزة السلطات في الأقاليم التي يمثلون فيها أكثرية سكانية.
تظل الأقليات العرقية الإيرانية، بنضالها التاريخي الطويل ضد نظام ولاية الفقيه وما قبله، قنبلةً موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، مهما حاولت الحكومات الإيرانية المتعاقبة التعامل معها بالقمع المفرط أو التودد الماكر؛ لأن قضية هذه الأقليات عادلة، ونَفَسَها النضالي طويل.