يتجنّب مئات الآلاف من سكان مدينة حلب السورية المُحاصرة ما يُدعى "ممرات إنسانية"، تلك الممرات التي أقامتها القوات الروسية والقوات السورية النظامية. مُفضلين بذلك خيار خطر الموت جوعاً ومواجهة تصعيد حملة القصف الجوي على مغادرة ديارهم وأن يأتمنوا الجيوش المُهاجمة على حياتهم.
فقد غادر فقط 169 مدنياً مدينتهم عبر تلك الممرات منذ الجمعة 29 يوليو/تموز، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وحسب ما قالت قوات الجيش الروسي في بيان نقلته وكالة أسوشييتد برس الأميركية، قام 69 مُقاتلاً بتسليم أسلحتهم، في حين تشير تقديرات مجالس ومنظمات الإغاثة العاملة بالمنطقة، إلى أن هناك أكثر من 300 ألف شخص لا يزالون بالمدينة.
ووفقاً للتقرير يثق القليل من الناس في الممر الآمن الذي فتحته حكومة ظلت لسنوات تقصف الأهداف المدنية، بما في ذلك المستشفيات والأسواق والمدارس، حسب ما يرى الطبيب السوري الأميركي زاهر سحلول، الذي غادر المدينة قبل أيام من حصارها بالكامل.
"كيف بإمكانك أن تثق في حكومة تقوم بقصفك كل يوم؟ أنا لا أتحدث عن قصف المقاتلين؛ أنا أتحدث عن قصف الأطفال والمُستشفيات"، هكذا يقول زاهر الذي زار حلب لمرات عديدة كمتطوع طبي في السنوات الأربع الماضية، وأضاف "لكن هؤلاء هم نفسهم من يقولون "بإمكانك الخروج بأمان".
الأمم المتحدة لا تثق بهم
وقد تلقت خطة الممر الآمن بالفعل استقبالاً فاتراً من قِبل قوى غربية، إذ شارك وزير الخارجية الأميركي جون كيري المخاوف بأن يكون ذلك العرض "حيلة"، كما تجاهل مبعوث الأمم المتحدة لدى سوريا، ستيفان دي ميستورا، روسيا، ووصف إنشاء ممرات إنسانية بأنها "مهمتنا"- مشيراً إلى أن هذا دور الأمم المتحدة.
وقال دي ميستورا "كيف نتوقع من الآلاف من الناس أن يمشوا خلال ممر، في حين أن هناك تفجيرات وقصف وقتال؟".
ويمكن تجسيد معاناة الأسر المحاصرة في حلب، باشتداد المعركة على المدينة، في صورة واحدة لأربعة شقيقات صغيرات من عائلة حمامي، يرقدن فيها على أسرّة مؤقتة من الوسائد والبطانيات بداخل المرحاض.
فتلك الصورة التي التقطها أحد الأعمام، تصور المشهد المتكرر في سائر أنحاء المدينة، فيما يبحث الآباء اليائسون عن أماكن آمنة من الغارات الجوية والشظايا التي تُطلق عليهم.
يقول زاهر "إن معظم العائلات يجعلون أطفالهم ينامون إما في المرحاض أو في الطابق السفلي، حتى عندما لا تصلح تلك الأماكن لبقاء الإنسان فيها، لأنهم يشعرون أن أبناءهم قد يكونون محمييّن أكثر فيها".
وزار زاهر ملجأً للأيتام حاول فيه 40 طفلاً الترفيه عن ضيوفهم بإقامة عرض مسرحي، ولكن محتوى العرض لم يكن يقل ظلامية عن أي من مآسي شكسبير.
"لقد عرضوا لنا مسرحية تتحدث عن الحصار القادم، وكيف أنهم مذعورون من اضطرارهم لتناول الحشائش ولحوم القطط آنذاك، مثل الناس في مضايا"، قال زاهر ذلك مشيراً إلى مدينة مضايا المحاصرة أيضاً من قِبل قوات الحكومة، ولقي فيها العشرات من الناس حتفهم جوعاً.
فجميع من لايزالون في حلب يعرفون أنهم سيواجهون شهوراً طويلة من الجوع والمعاناة، كما يقول زاهر، ولكنهم يخشون أن تلك "الممرات الإنسانية"، تقدم حلاً أكثر سوداوية، لعدة أسباب.
القناصة
فالبعض يخشى رصاصات قنّاصي القوات الحكومية، إن حاولوا استخدام تلك الممرات، فالقناصة تصيّدوا بشكل منتظم المدنيين الذين حاولوا العبور بين مناطق الحكومة والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة المُسلحة في وقت سابق من الحرب القائمة بالبلاد، وهناك تقارير تشير إلى أنهم بالفعل حاولوا استهداف الأشخاص الذين يعبرون في الوقت الراهن، بحسب ما يقول زاهر.
وهناك آخرون أكثر خوفاً من الاستقبال الذي سيتلقونه من نظام معروف بالتعذيب والقتل وإخفاء معارضيه، لو عبروا بأمان إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.
يقول زاهر "إنهم يعيشون هناك منذ ثلاث أو أربعة سنوات، ولا يجرؤون على المغادرة لأنهم يخشون أن تعاملهم الحكومة كإرهابيين"، مُضيفاً أن هناك قلقاً إضافياً للشباب من الذكور، فإذا لم يكونوا مُصنفين كأعداء للدولة، فقد يتم تجنيدهم للقتال في صفوفها.
ويعتقد الكثيرون أيضاً أن عرض اللجوء هو مجرد غطاء لخطط إجلائهم بشكل دائم، فقد تابع زاهر أن "الكثيرين يعتقدون أنه تطهير عرقي قسري، من أجل تغيير ديمغرافية السكان وإجبار الناس على الخروج من أماكن تجمعهم".
ووجد هذا القلق أصداءً من قِبل المسؤولين الأميركيين، الذين يُقرّون سراً أنهم يخشون من أن الحكومة السورية قد ترغب في إخلاء المدينة لتسهيل الهجوم النهائي. بحسب ما أوردت وكالة رويترز للأنباء، إذ قال أحد المسؤولين "لماذا تقوم بإخلاء مدينة أردت إرسال المساعدات الإنسانية إليها؟!".
وقال زاهر إن أسعار المواد الغذائية بداخل المدينة قد بلغت ثلاثة أضعافها، وبدأ الخبز في النفاد في بعض المناطق والخضراوات تختفي من الأسواق.
المساعدات الطبية تستنزف
وهناك أيضاً مخاوفٌ بشأن المساعدات الطبية، والتي أُعِدت للبقاء لعدة أشهر، ولكنها تُستخدم على نحو سريع بسبب شدة القصف، حتى المستشفيات والمدارس والحياة اليومية تُقام تحت الأرض في محاولة لتجنب الحملة الجوية.
ودفع انقطاع آخر الطرق إلى زيادة الطلب على الأسِرّة، حيث إنه لم يعد من الممكن إجلاء الحالات الأكثر خطورة، لذا تمتلئ العنابر باستمرار ويواجه الأطباء قرارات مؤلمة حول اختيار المرضى الذين يمكنهم البقاء في تلك المشافي الميدانية
ويحذر زاهر من أن حجم حلب، وأهميتها التاريخية، يعني أن انهيار المناطق التي تسيطر عليها المعارضة لن يحمل خطر حدوث مأساة إنسانية فحسب، بل قد يمثل أيضاً تهديدات أمنية للغرب.
فيقول "إذا سقطت حلب، سيتم تصويرها على أنها خيانة من قبل المجتمع الدولي للسوريين، وسيكون هناك من يحاولون استخدام ذلك"، وحذر قائلاً "إن نفس الصور التي تراها تُستخدم من قِبل داعش والجماعات الأخرى لتجنيد أفرادٍ جدد".
* الجارديان البريطانية
ترجمة : هافينغتون بوست عربي