[ تولكاتشيف أثناء إجازة بالقرب من بحر البلطيق في أوائل سبعينيات القرن الماضي (صورة من مجموعة صور لدى الكاتب ديفيد هوفمان) ]
استعرضت مجلة فرنسية كتابا يروي الحياة البائسة لأدولف تولكاتشيف الجاسوس الذي كشف لوكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) العديد من الأسرار التكنولوجية، قبل أن يتعرض للخيانة والإعدام من قبل المخابرات السوفياتية.
تبدأ القصة عام 1978 في جو من عدم الثقة الشديدة بعد انكشاف جاسوسة سوفياتية وحريق غامض في السفارة الأميركية بموسكو جعلا "سي آي إيه" مترددة في الدخول في قصة قد تنتهي بشكل سيئ، رغم اقتراح مدير فرعها في موسكو التعامل مع رجل روسي زود أحد موظفي السفارة الأميركية بصفحتين مفيدتين للغاية عن الرادارات العسكرية السوفياتية.
وتصف "لوبوان" (Le Point) هذا الروسي بأنه كان عنيدا، حيث جاب موسكو لمدة عام باحثا عن سيارات أميركية تحمل لوحات دبلوماسية، وفي كل مرة عندما يمدها برسائل ويطلب الاتصال به يتم تجاهله حتى قرر في رسالته الأخيرة الكشف عن نفسه بهاتين الصفحتين، لكن المركز في واشنطن رفض القيام بأي شيء حياله واعتبر أن هذا المتطوع مرادف للطُعم، وبالتالي تنبعث منه رائحة العدو.
وكان مدير مكتب "سي آي إيه" في موسكو غوس هاثاواي -الذي يشعر بأن هذا الشخص الغامض صادق- غاضبا من هذا الرفض المتكرر.
وقال هذا الرجل في إحدى رسائله "أخشى لأسباب أمنية أن أقول الكثير عن نفسي كتابيا، وبدون هذه المعلومات تخشون لأسباب أمنية الاتصال بي خوفا من الاستفزاز".
وبسبب الإعراض -كما في قصص الحب- كادت الولايات المتحدة أن تخسر المصدر الأفضل الذي عثرت عليه قبل نهاية الحرب الباردة، إنه أدولف تولكاتشيف (51 عاما) كبير المصممين في معهد البحث العلمي لهندسة الراديو الذي يصمم الرادارات العسكرية للطائرات المقاتلة، جوهر الدفاع السوفياتي.
وقد عرى نفسه في رسالة من 11 صفحة قدمها بعد حلول الظلام، لينطلق الضوء الأخضر من واشنطن، حيث كان البنتاغون يطلب من "سي آي إيه" معلومات عن الإلكترونيات الجوية.
وفي الكتاب -الذي عرضه فرانسوا غيوم لورين للمجلة- يقدم ديفيد هوفمان المحرر المساعد في "واشنطن بوست" (The Washington Post) -الذي كان مدير فرع الصحيفة في موسكو ويعرف جميع أبطال القضية- تولكاتشيف على أنه استثناء بين الجواسيس الذين وظفتهم واشنطن في موسكو رغم تعددهم وتنوعهم، لأنه مهندس وليس جنديا، ولأنه يعمل في "قدس الأقداس" موسكو.
ويضيف أنه أمد الأميركيين باستخدام الكاميرات بآلاف المستندات لمدة 7 سنوات حول سياسة الرادارات، سواء ما تعلق منها بطائرات "ميغ" أو صواريخ أرض جو أو محطات رادار متطورة.
وطبقا للكتاب، فقد قدرت القوات الجوية للجيش الأميركي الأموال التي وفرتها بفضل تولكاتشيف ومعلوماته بنحو ملياري دولار، ولولاه لكانت تلك الأموال قد أنفقت على أبحاث عسكرية وعلمية لمواجهة التقدم العسكري السوفياتي.
ويكفي لفهم أهمية هذا العميل أن المخابرات المركزية الأميركية أبلغت الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان عند توليه السلطة أن تولكاتشيف سيسمح لأميركا -التي انطلقت في "حرب النجوم"- بأن تطلع على لعبة الخصم وأن تتنبأ بخطواته التالية وبالتالي أبحاثه الخاصة، مما كان له تأثير واضح خلال حرب العراق في إبادة العراقيين المجهزين بالطائرات السوفياتية.
وفي خطاب تم تسليمه في أبريل/نيسان 1978 وضع تولكاتشيف خطة مدتها 12 عاما على 7 مراحل يصف فيها مسبقا نوع وتوقيت المعلومات التي سيقدمها، مما يظهر أنه شخص رصين يتمتع بتصميم لا مثيل له، وعلى استعداد لإلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالاتحاد السوفياتي، حيث يقول "اخترت طريقا لا مجال فيه للعودة، وليست لدي أي نية للانحراف عنه".
لم تكن تحدد لهذا العميل مهمات لأنه في مهمة دائمة لا يستريح منها إلا فصل الصيف عندما يكون الجو حارا بحيث لا يتمكن من ارتداء معطفه الذي يخفي فيه المستندات التي يأخذها إلى المنزل لتناول طعام الغداء، وقد وفر له الأميركيون جهاز ديسكوس (سلف الهاتف المحمول) القادر على نقل رسائل نصية عبر الأقمار الصناعية، والذي لم تكن المخابرات السوفياتية تعلم بوجوده أصلا.
أما الدافع فقد اتضح أنه لم يكن المال رغم ما يطلبه تولكاتشيف منه لإقناع موظفيه، بل كان الرجل مدفوعا بغيرته على وطنه، وهو يريد "إنقاذ الاتحاد السوفياتي من حزب دولة منافق وديماغوجي"، وقد حكى لعملائه كيف انتظر أن يكبر ابنه المولود عام 1965، وكيف استوحى إلهامه من الكاتب سولجينتسين والعالم ساخاروف، وكيف أتته الفكرة بعد انشقاق الطيار المقاتل بيلينكو عام 1976، والذي غادر إلى اليابان بطائرته "ميغ 25" (MIG-25)، مما دفع المعهد إلى مراجعة تصميم الرادار الخاص بها.
انتهى أخيرا تولكاتشيف الذي تكررت طلباته للسيانيد حتى لا يقع في أيدي المخابرات السوفياتية في يونيو/حزيران 1985 بسبب خطأ لوكالة المخابرات المركزية كما تنتهي عادة قصص التجسس بشكل سيئ، ولعلها تظهر قريبا على الشاشات لأن كل قصة تجسس رائعة تنتهي على الشاشة الكبيرة، حسب تقرير المجلة.