[ عمل فني يصور حال الباريسيين خلال فترات المجاعة (مواقع التواصل) ]
عندما تذكر العاصمة الفرنسية باريس فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو برج إيفل وقوس النصر وشارع الشانزليزيه الشهير وكاتدرائية نوتردام، إلا أن المدينة التي تلقب بمدينة النور لديها أسرار تاريخية صادمة وقمة في الغرابة، ولا يعرفها كثيرون.
قذارة عامة
أول هذه الأسرار وربما أغربها على الإطلاق يتعلق بالنظافة أو ربما بالقذارة، فقد كانت أحياء باريس خلال العصور الوسطى بمثابة مكب ضخم للنفايات، ولم يكن أهلها يعرفون المراحيض، فكانوا يقضون حاجتهم في الشوارع ويلقون فضلاتهم ومخلفاتهم في الشوارع التي كانت الخنازير والكلاب والقوارض والجرذان تصول فيها وتجول بين المنازل.
كانت الروائح الكريهة منتشرة في كافة أرجاء باريس، حيث تتدفق المجاري الممتلئة بالنفايات في الهواء الطلق مسببة الوحول في الشوارع، في وضع كارثي تسبب في انتشار العديد من الأوبئة والأمراض، حيث فتك الطاعون وحده عام 1348 بأكثر من 80 ألف شخص في المدينة.
واستكمالا لمشهد القذارة شهدت باريس خلال القرنين الـ16 والـ17 اختفاء تاما للحمامات العمومية بعد انتشار مرض الزهري، وأصبح الأطباء يحذرون من مساوئ الاستحمام اعتقادا منهم أنه كان سببا في دخول الأمراض إلى الجسم، وكان البديل وقتئذ هو تنظيف الوجه واليدين بمناشف رطبة ومعطرة، وزاد استخدام العطور بشكل مفرط لإخفاء الروائح الكريهة، وحتى عام 1850 وصولا إلى أواخر القرن الـ19 كان الفرنسيون يستحمون بمعدل مرة واحدة كل عامين.
حكام مجانين
شهدت فرنسا خلال تاريخها وصول عدد من الحكام الذين وصفوا بالجنون، أو تأكدت بالفعل إصابتهم بمرض عقلي، لكن أشهر هؤلاء الملك شارل السادس الذي حكم فرنسا أواخر القرن الـ14، فخلال ثلاثين عاما هي فترة حكمه كان يدخل بشكل دوري في نوبات جنون هستيري، ومع الوقت لم يعد يتعرف إلى أفراد أسرته ولا إلى نفسه، واعتقد أنه مصنوع من زجاج قد ينكسر في أي لحظة، وكان يلبس ملابس مقواة حتى يحمي نفسه من الكسر، وكان يرفض الاستحمام أو تغيير ملابسه.
حاول كثيرون تفسير حالة الجنون هذه لدى الملك شارل السادس، وتنوعت التشخيصات مع تطور الطب النفسي ما بين الخرف المبكر والفصام في الشخصية والاضطراب ثنائي القطب.
النموذج الثاني لحكام فرنسا الذين وصموا بالجنون كان بول ديشانيل الذي انتخب رئيسا لفرنسا في يناير/كانون الثاني 1920، لكنه استقال من منصبه بعد نحو ستة أشهر فقط بسبب الجنون.
اكتشف جنون الرئيس بعد سلسلة مما اعتبره السياسيون في البداية "كوارث بروتوكولية" حتى تم تشخيصه بمرض "متلازمة ألبينور"، وهي حالة من فقدان الوعي خلال الصحوة ترافقها مشاكل في الارتباك المكاني.
أما أشهر ما ذكر عن جنون ديشانيل فكان أنه وقع خطابا رسميا باسم نابليون، كما استقبل سفيرا وهو عارٍ، وكان مرتديا فقط وشاح وسام الشرف.
مجاعات
كانت المجاعات تتربص بانتظام بالفرنسيين خلال القرون الماضية، وشهدت البلاد عشرات المجاعات بين القرنين الـ17 والـ18.
وأبرز تلك المجاعات كانت تلك التي ضربت البلاد في عام 1709، حيث عانت فرنسا من موجة صقيع مفاجئة أدت لانهيار درجات الحرارة في غضون ساعات، حيث تجمد كل شيء، ولم يعد الفرنسيون قادرين حتى على حفر القبور لدفن موتاهم، فتركوا جثثهم في العراء.
وحالت الطرقات المقطوعة بفعل الثلج دون وصول الإمدادت للعاصمة فتضور أهلها جوعا، في حين تسبب الجليد الذي اكتسح الأرض في القضاء على الأشجار والزرع.
ونتج عن ذلك ارتفاع أسعار الحبوب، فتضاعف ثمن الخبز عشر مرات واندلعت أعمال نهب وشغب في مختلف المناطق، في حين استشرت المجاعة لدرجة دفعت بالبؤساء إلى أكل العشب وجذور الشجر.
ويقدر مؤرخون عدد الذين قضوا عام 1709 والعام الذي يليه بنحو 1.8 مليون شخص بسبب المرض والجوع وشدة البرد.
مجاعة كبرى أخرى تعرضت لها فرنسا خلال حصار الجيش البروسي لباريس عام 1870 التي شهدت أشهرا طويلة من الشظف والحرمان استهلكت خلالها أنواع حيوانات كثيرة، أبرزها الخيول والحمير وحيوانات أخرى لم يتخيل أحد يوما أن تكون غذاء لأهل باريس.
وتسبب الحصار في تدهور الأوضاع وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وعندما اختفى لحم البقر والغنم اتجه الناس لشراء لحم الخيل، وعندما شح الأخير اكتشفوا طعام لحم الحمير التي سرعان ما منع ذبحها، فتوجه الناس إلى شراء لحوم القطط والكلاب وحتى الجرذان، أما الطبقة العليا فتوجهت إلى لحوم الجمال والكناغر والفيلة والدببة.
وخلال الأيام الأخيرة من الحصار اضطرت الحكومة الفرنسية إلى طحن عظام بشرية كانت مكدسة في سراديب باريس الأثرية بهدف خلطها بالطحين المعد لصناعة الخبز، فأكل الباريسيون بدون علمهم رفات أجدادهم.
سراديب الموتى
واجهت باريس في القرن الـ16 مشكلة حقيقة في المقابر الجماعية التي تكدست بالموتى، وسط مخاوف من تأثيراتها على الأحياء المحيطة بها.
وفي القرن الـ18 أفرغت السلطات الفرنسية هذه المقابر الجماعية، ونقلت رفات نحو 6 ملايين شخص إلى سراديب تحت الأرض كانت بمثابة مناجم لاستخراج صخر الجبس الكبريتي.
واليوم تستقطب هذه السراديب المكدسة برفات وعظام بشرية منذ قرون أكثر 300 ألف سائح سنويا، وتعد أكبر مقبرة جماعية في العالم.
ورغم أنها ممتدة لأكثر من 300 كيلومتر تحت باريس وبعمق نحو ثلاثين مترا فإن السلطات الفرنسية لا تسمح للزوار إلا بالدخول في مساحة كيلومترين فقط، أما بقيتها فلا يسمح بدخولها لافتقارها إلى شروط السلامة والتهوية الصحية، كما يمنع دخول الأشخاص الذين لديهم مشاكل في التنفس أو القلب، وكذلك الأطفال دون 14 سنة بمفردهم.