هناك الكثير من الأشياء التي يستحق ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الثناء عليها، لاسيما رغبته في مواجهة المصالح الراسخة للمملكة التي لطالما منعت تحوّلها إلى بلد مُستدام اقتصادياً وأكثر حرية.
ويوضح زاك ديكنز، المتخصص في السياسة الخارجية الأميركية والإرهاب الدولي، في مقال له بمجلة "إنترسبت العالمية"، أن رغبة الأمير محمد في مواجهة هذه القوى الداخلية، بدءاً من المؤسسة الدينية الوهابية المهيمنة التي كثيراً ما أعاقت الإصلاح الاجتماعي في السعودية، إلى اقتصاديات الإسراف المعتمدة بالكامل على النفط، تمثل خروجاً فريداً عن نهج الملوك السعوديين السابقين.
ويقول الكاتب الأميركي إن التزام الملك السعودي المستقبلي بالإصلاح في المجالات السالفة الذكر يُكمل هدفين أساسيين للولايات المتحدة وهما: محاربة انتشار التطرف السُنّي في حربها على الإرهاب، وضمان بقاء السعودية حليفاً مستقراً في الشرق الأوسط لأجيالٍ قادمة.
لكنَّ طبيعة الأمير محمد "المتهورة" -بحسب وصفه- تتزامن مع سياسةٍ خارجية مدمرة وميلٍ لشن حملات تطهير استبدادية بحق المعارضة، وهو ما يزيد من احتمالية انحراف مسار أجندته الاقتصادية والاجتماعية.
ويشير ديكنز في مقاله بالمجلة الأميركية إلى أنه ينبغي لإدارة ترامب أن تدرك أنَّ صلاحية وجود شراكة سعودية-أميركية تتطلَّب اهتماماً فعالاً بجهود الأمير محمد الإصلاحية، في الوقت الذي تستخدم فيه الدعمين السياسي والاقتصادي لإقناعه بالعدول عن أسوأ ميوله الاستبدادية ومغامراته في السياسة الخارجية.
فهذه الفرصة التي تأتي مرة واحدة في القرن لإصلاح السعودية، قد تفشل إذا ما أخفقت إدارة ترامب في كبح جماح أسوأ طموحات الأمير العنيد، وفق كاتب المقال.
وباعتبار السعودية أكثر حلفاء الولايات المتحدة تأثيراً في الشرق الأوسط، فإنَّ التيارات السياسية المتغيرة ينبغي أن تحظى باهتمامٍ كبير من صانعي السياسة الخارجية الأميركية. ومع ذلك، فإنَّ الاستراتيجية الحالية لإدارة ترامب حول السعودية يمكن أن تُوصَف بأنَّها مُساعِدة، ومُتساهِلة، وغير مبالية. فمن الناحية العسكرية والسياسية، لم تُظهِر إدارة ترامب أي قيود على مساعدتها التي تُقدِّمها للمملكة أو رضاها عنها.
لكنَّ الاهتمام بالمبادرات السعودية ينتهي عند هذا الحد. وقد ظهر هذا الأمر أكثر وضوحاً حينما استقال رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، فجأةً في الرياض، على الأرجح بضغطٍ من الحكومة التي يقودها ولي العهد.
وقد اتبع رد الحكومة الأميركية الصيغة ذاتها التي استخدمتها منذ وصول ترامب للرئاسة؛ إذ قدَّم وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، انتقاداً غامض الصياغة لم يُسمِّ أي طرفٍ على وجه الخصوص، في الوقت الذي لم تبالِ فيه إدارة ترامب.
وبينما يُعتبر دعم الإدارة الأميركية للسعودية بغرض الاستقرار في الخليج العربي أمراً ليس بالجديد، فإنَّ استراتيجية ترامب تختلف في أنَّه للمرة الأولى منذ عقود يلتزم زعيمٌ سعودي بتغيير مجتمع المملكة تغييراً جذرياً بطريقة تُنوِّع اقتصاده وتواجه تصدير ونشر الأيديولوجيا الإسلاموية.
ويوضح الكاتب الأميركي زاك ديكنز أنه يمكن النظر إلى الماضي بوصفه نموذجاً لما ينبغي تجنبه، فثمة أوجه تشابه مزعجة بين سياسة إدارة ترامب تجاه محمد بن سلمان، والسياسة التي اتبعها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية هنري كيسنجر مع إيران تحت حكم الشاه.
تكرار تجربة شاه إيران
وبالطريقة نفسها تقريباً التي ستؤدي بها حملة تحديث محمد بن سلمان إلى آثار واسعة النطاق على المجتمع السعودي لو طُبِقَّت بعدوانية مثلما سيتضح، أدَّى اندفاع الشاه رضا بهلوي في إيران نحو الحداثة الغربية إلى إغضاب قطاعاتٍ واسعة من المجتمع الإيراني التقليدي المتدين.
وبالمثل، أدَّت خطط التنمية الاقتصادية العنيفة، التي بدأت مع الثورة البيضاء عام 1963، إلى إرباك حياة ملايين الإيرانيين. ولم يقتصر الأمر على تجاهل كيسنجر ونيكسون -والرئيسين التاليين، جيرالد فورد وجيمي كارتر- إعدام الشاه الآلاف من معارضيه السياسيين وتهميشهم؛ بل وقدَّمت الولايات المتحدة أيضاً مساعداتٍ عسكرية مُخفَّضة بما قيمته مليارات الدولارات ودعماً سياسياً ضرورياً لدعم استقرارٍ كان يتَّضح ببطء أنَّه سريع الزوال.
وقد أفضت الطبيعة القمعية للشاه، وإصلاحاته العنيدة، وسعيه للهيمنة الإقليمية إلى زواله. فبحلول عام 1979، أطاح الغضب المكبوت لدى الإيرانيين بحكمه. ومن المفارقات -بحسب الكاتب- أنَّ السعي غير المتأني وراء الاستقرار مقروناً بمَلِكٍ طموح قد أدَّى إلى انهيار الاستقرار والملك على حدٍ سواء. والسياسة الأميركية الحالية حيال السعودية تزيد من احتمالية الوصول إلى النتيجة ذاتها.
وفيما يبدأ محمد بن سلمان حملته لتحديث السعودية، ينبغي للولايات المتحدة أن تمنحه دعمها الكامل. وستتأثر قطاعات كبيرة من المجتمع السعودي سلباً على المدى القصير نتيجة انتقال المملكة من اقتصادها المعتمد على النفط، الذي يُشترى فيه خضوع الشعب بالاكتفاء الاقتصادي عبر دعمٍ حكومي سخي، إلى اقتصاد سوقٍ حرة أكثر تقليدية.
وفي الوقت ذاته، وبينما يقدم وليّ العهد إصلاحاتٍ تُقلِّل من سيطرة علماء الدين النافذين للغاية، ستواجه الطبيعة المحافِظة للغاية للمجتمع السعودي بعض التحديات. وفيما يتعلق بالإجراءات الدبلوماسية البسيطة، ينبغي للولايات المتحدة أن تضغط على الملك السعودي المستقبلي من أجل أن تتيح الطريقة التي يتعامل بها مع المعارضة الداخلية وجود قنواتٍ للتعبير عن المظالم.
وستكون هذه التحديات الداخلية كبيرة في ذاتها دون المغامرات الخارجية غير الضرورية التي ينخرط فيها ولي العهد. وتسمح المساعدات العسكرية الأميركية غير المسبوقة بهذا الولع بخوض المغامرات الخارجية الكارثية من جانب السعودية، حتى عندما يشيح مقدمو المساعدة بناظريهم إلى الجهة الأخرى حين تُستعمل هذه المساعدات.
ويضيف الكاتب في مقاله: "فمن ثَمَّ ينبغي لإدارة ترامب أن تُقلِّص من المساعدات العسكرية المستقبلية وتحولها إلى الجهود الاقتصادية. وينبغي لها أيضاً أن تجعل تسليم بقية الصفقات العسكرية، الموقعة حديثاً بقيمة 350 مليار دولار، مشروطاً بالتضييق على الدعاة السلفيين عالمياً، وإيقاف التدخل السعودي العسكري الوحشي في اليمن، وإنهاء الحصار غير المدروس على قطر نهايةً مسؤولة".
وبينما اتخذ تيلرسون خطوةً في الاتجاه السليم عندما وجَّه أقوى انتقاداته حتى الآن للسياسة الخارجية السعودية في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، فإنَّ هذه الكلمات ينبغي أن تدعهما سياسة ملائمة دون أن تناقضها كلمات الرئيس نفسه.
وسيؤدي هذا الأمر، وفق زاك ديكنز، إلى كبح طموحات الأمير محمد التدخُّلية والسماح للحكومة السعودية بتركيز كل مواردها على التحول الاجتماعي. وستُبقي الولايات المتحدة على قدرتها على حماية المملكة السعودية كما كانت تفعل تاريخياً. لكنَّ هذه الخطوات الموصوفة ستحافظ على العلاقات الأمنية التي نمت بين البلدين عبر عقود دون أن تزيد احتمالية تدخُّل الولايات المتحدة في المنطقة نتيجة حساباتٍ سعودية خاطئة.
ويشير الكاتب إلى أنه على مدى عقود أجبرت الأهمية الجيوستراتيجية للسعودية، بالنسبة للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، الإدارات المتعاقبة على غضّ الطرف عن سياسات المملكة المتعارضة مع أهداف السياسة الأميركية التي لن تؤدي إلى الحفاظ على استمرارية وجود المملكة ذاتها.
وقد أوضح الأمير محمد بن سلمان، بإعلانه رؤية 2030، أنَّ الأهمية الجيوستراتيجية لا تقتضي أن تبقى الولايات المتحدة راضيةً بالمظاهر البغيضة وغير المستقرة للحكم السعودي. وإن كان الرئيس ترامب ملتزماً بالقضاء على "الإرهاب الإسلاموي المُتطرِّف" والسعي نحو استقرار المنطقة كما يقول، فينبغي لإدارته أن تنخرط بصورةٍ جيدة مع السعودية بطريقةٍ تتجاوز دعم جيشها ومدح قيادتها.
ويخلص زاك ديكنز إلى أن سياسة التدخل الخارجية الحافلة بالهزائم للأمير محمد تحتاج إلى مواجهتها بقوة، لاسيما أنَّها تُمول بشكلٍ كبير من جانب الولايات المتحدة وحلفائها. وتجعل مهمة دفع المجتمع السعودي إلى اتجاهٍ مختلف بالكامل، من الضروري ألّا يتسبَّب أي شيءٍ آخر في تشتيت التركيز بعيداً عن الأهداف المرتبطة بهذا التحول.
ويختم الكاتب مقاله مؤكداً أنَّ صعود الأمير محمد يطرح فرصاً لا تأتي سوى مرة واحدة في العمر لصفّ أكثر دول الشرق الأوسط نفوذاً إلى جانب الولايات المتحدة بشكلٍ كامل. وسيكون من الكارثي تفويت هذه الفرصة دون اقتناصها.