زهرة المدائن اليمانية وحاملة المشروع الوطني اليمني منذ انبلاج فجرها الساري في ربوع الوطن، حاضنة ثوار الرابع عشر من اكتوبر وحاضرة الثورات والحركات الوطنية عبر تاريخها، تعز تلك المدينة التي تعطي ولم تأخذ، أجزلت العطاء ولم تمنُن، تحملت ظلم الظُلاّم وجورهم وما حادت عن مسارها الوطني، عصرت عقلها المتنور وقسّمته نخباً صافيا بأباريق لا تصدأ على الوطن اليمني كي ينعتق من ضلام الجهل الممنهج ويغادر عُتمة التيه وفقدان البوصلة ، ولم تنضب.
ما الذي فعلته هذه المدينة التي جُبلت على الانتماء الوطني والباذلة كل غالٍ في سبيل أرض الجنتين حتى تُترك هكذا على قارعة النسيان؟ لم تكن تعز يوما واهنة وطنيا حتى في أشد مِحَنها كانت قوية وعصية على التراجع أو الإنكفاء، ففي ثورة سبتمبر قدمت المال والرجال في سبيل استعادة مجد الوطن اليمني، وفي ثورة اكتوبر كانت الملاذ الآمن لفصائل المقاومة الجنوبية ضد الإحتلال الجاثم على جناح الوطن الجنوبي، وفي حصار السبعين يوما أرسلت أفواجاً من المقاتلين الأشداء دفاعا عن جمهوريتها الأولى، فلماذا إذن تُقابل بكل هذا الحجود والنكران وتُترك فريسة لقذائف وصواريخ الموت القادمة من أعالى الجبال والتلال؟
عامان مرا على تعز ولاتزال ترزح تحت وطأة البارود وقذائف الموت، والجميع بلا استثناء يستخدمها كسلعة للمتاجرة والمرابحة بها وبمعاناة الضعفاء فيها ، لا يمر يوم من أيامها في العامين الأخيرين إلا وأهرق فيه دم كهل بريء وغابت فيه روح طفل لاهٍ في فناء منزله وانتحبت أم على فراق فلذة كبدها وانهارت زوجة على فقدان معشوقها وعائل أبنائها، بينما ممتهني السياسة وتجارها يمارسون تجارتهم الرخيصة ويحملون قضيتها من والٍ إلى ملكٍ ، ومن بلاط قصر ٍ إلى آخر ، دافعهم في ذلك مصالحهم الضيّقة وتوجيهات الولاة والملوك وعطاياهم ، فيربحون وتخسر تعز.
لقد أضحت تعز ككبش الحاج محسن، كان الحاج محسن يحمل كبشه من مسؤول حكومي إلى آخر بُغية الحصول على أوامر وتوجيهات لمشروع خاص أو عام ، فكان كلما دخل على مسؤول ما عَقَلَ كبشه في فناء تلك الدائرة الحكومية أو فناء منزل ذلك المسؤول، ثم يأتيه طالبا إنجاز مهمة ما أو الحصول على أمر أو هبة من لدنه ، وما إنْ يبدأ حديثه معه يشير إلى أنه أتاه "بموصل" وذاك الكبش الرابض في الفناء "موصل" له ، ومن الأعراف القبلية المتعارف عليها عدم رد من أتى "بموصل" مهما كان ، فيخرج الحاج محسن وقد نال ما أراده وحقق مبتغاه وعلى طريق خروجه يفكّ رباط كبشه ويأخذه معه واصلاً به مسؤولا آخر وهكذا دواليك حتى قضى الكبش نحبه في فناء أحد المنازل بعدما حقق الحاج محسن ما أراده وسعى إليه ، وهكذا أضحت تعز بعدما تحولت إلى كبشٍ في أسواق السياسة ودهاليزها.
تعز هي الضحية وهي الكبش الجائع المحاصر التي تتقاذفها الأيادي من أصغر مسؤول يمني وحتى أكبر عِقال عربي، تركوها دون غوثٍ أو نجدةٍ حتى يتاجرون بمعاناتها ، ولكي يثبتوا للعالم وحشية المليشيا وظلمها وهي ترتكب المجازر في هذه المدينة العصية والمنسية في آن ، تلك الرؤية عبر نافذة الألم يدفع ثمنها أطفال المدارس وطلاب الجامعات، يدفع ثمنها مئات الآلاف من اليمنيين المحاصرين دون ماء أو كهرباء وكل أساسيات الحياة، من يقنع هؤلاء أنْ ليس بالضرورة تمكين العالم من رؤية وحشية المليشيا من خلال نافذة تعز وعذابات أبنائها، وحشية المليشيا معلومة منذ زمن بعيد فهي سليلة الحكام المتوحشين الذين أثخنوا جراح اليمن تقتيلا وتنكيلا، منذ ابن حمزة وابن القاسم وغيرهم وليس انتهاءً بآل حميد الدين بل وصولاً إلى آل الحوثي الذين قتلوا أكثر من ستين ألف جندي وضابط يمني خلال تمردهم الممتد من 2004 وحتى 2009.
الفداء والتضحية لأجل الوطن اليمني الممتد من صعدة وحتى المهرة هما ما يميزان تعز على مدى تاريخها، فداءٌ لا يشوبه أي شائب ولا يخالطه أي ظن وما هذه التضحيات التي تقدمها تعز الآن في كل جبهات القتال إلا لأجل اليمن كل اليمن، حفاظا على نظامها الجمهوري وثورتها السبتمبرية، حتى وإن كانت هذه التضحيات آتية من عمق الجراح وفقدان الحيلة بعد أنْ وجدت نفسها خارج المعادلة السياسية حيث لا قريب هنا ليشفع ولا بعيد هناك ينفع، لكنها ستنتصر في معركتها الوطنية كما انتصرت في سالف أزمانها وعبر تاريخها الذي لا تخطؤه العين ولن تنساه الذاكرة.