طارق صالح لم يولد سياسيًا، ولم يتشكل قائدًا وطنيًا، ولم يحمل في أي مرحلة تصورًا للدولة بوصفها فكرة جامعة أو عقدًا اجتماعيًا.
طارق نشأ داخل المطبخ الأمني الصلب لنظام عمه علي عبدالله صالح، وتحديدًا بوصفه قائد الحرس الخاص؛ أي الرجل الأقرب إلى الجسد، والأبعد عن الدولة. وهذه ليست مجرد سيرة وظيفية، بل أصل تكويني يفسّر كل ما تلاها. من يتعلم حماية الفرد لا يتعلم حماية الكيان، ومن يُربّى على الولاء الشخصي لا يفهم الشرعية العامة.
طارق لم يكن رجل مؤسسات، بل رجل أوامر. لم ينشأ داخل الجيش كمنظومة وطنية، بل داخل دائرة أمنية مغلقة مهمتها الوحيدة ضمان بقاء الحاكم. هذه التربية أنتجت عقلًا أمنيًا خالصًا يرى السلطة كغنيمة يجب حراستها، لا كمسؤولية يجب إدارتها، ويرى الدولة كامتداد للحاكم، لا ككيان مستقل عنه.
حين وقع انقلاب 2014، لم يكن طارق في موقع المتفرج ولا في موقع الضحية. كان ركنًا أساسيًا في لحظة الانقلاب، لا بوصفه صانع قرار سياسي، بل بوصفه العقل العسكري التقني الذي سهّل انتقال وحدات كاملة من الجيش إلى خدمة الميليشيا الحوثية. خلال مرحلتي عاصفة الحزم وإعادة الأمل، لعب دورًا محوريًا في تدريب وإعادة تأهيل وحدات عسكرية سلّمت سلاحها للحوثيين أو اندمجت معه عمليًا، وأسهم في تفكيك ما تبقى من العقيدة الوطنية داخل تلك الوحدات. لم يكن ذلك خطأ تقدير، بل انسجامًا كاملًا مع عقيدة الحرس الخاص: حماية القوة أسبق من حماية الدولة.
ثم جاءت انتفاضة ديسمبر 2017. قُتل علي عبدالله صالح، الرجل الذي كان طارق قائد حرسه الخاص. سقط النظام، وسقطت الدائرة، وسقط الحاكم، وبقي الحارس حيًا. نجاة قائد الحرس حين يُقتل المحمي ليست تفصيلًا عاطفيًا، بل لغزًا أمنيًا وأخلاقيًا لم يُفكك، ولم يُحاسب، ولم يُطرح حتى كسؤال عام. هذه النجاة تحولت لاحقًا إلى عبء نفسي ثقيل دفع طارق إلى تعويض البقاء بالقوة، لا بالمراجعة، وبالاستعراض لا بالاعتراف، وبالهروب إلى الأمام لا بالوقوف أمام الماضي.
بعد خروجه من صنعاء، لم يبحث طارق عن مشروع وطني جديد، ولا عن مراجعة سياسية، بل عن راعٍ بديل يعيد إنتاجه. لم يتجه إلى الدولة الشرعية، بل إلى الخارج. ولاؤه للإمارات لم يكن تحالف مصالح ولا شراكة عسكرية ظرفية، بل تبعية كاملة بلا هوامش. المال، السلاح، الغطاء السياسي، إعادة التدوير الإعلامي، هندسة الصورة، وتحديد الدور… كلها جاءت من الخارج. طارق لم يبنِ قوته، بل صُنعت له قوة ليؤدي بها وظيفة محددة في جغرافيا محددة.
الأخطر من ذلك أن طارق أبدى استعدادًا صريحًا للتخلي عن أكبر منجز سياسي لعمه: الوحدة اليمنية. لم يتعامل معها كخط أحمر، ولا كقيمة مؤسسية للدولة، بل كملف تفاوضي قابل للمساومة إذا كان الثمن هو تثبيت موقعه وإرضاء الراعي. هنا لم يعد الخلاف سياسيًا، بل أصبح انفصالًا وجدانيًا عن فكرة الدولة ذاتها، واستعدادًا واعيًا لتفكيكها مقابل ضمان الدور.
في المخا، تُقدَّم المشاريع التنموية — طرق، مطار، موانئ، منشآت — بوصفها إنجازات. لكنها في جوهرها مشروع انطلاق خارج الدولة لا داخلها. بنية تحتية تُدار بلا سيادة، وتنمية بلا مؤسسات، وجغرافيا تُجهَّز لتكون قاعدة وظيفية لا مدينة وطنية. هذه المشاريع لا تهدف لربط المخا بالدولة، بل لفصلها عنها، وتحويلها إلى نقطة نفوذ مستقلة القرار والمرجعية.
داخل أسرة صالح نفسها، تتصاعد شائعات جدية عن صراع صامت على الزعامة بين طارق وأحمد علي عبدالله صالح. الأول يملك السلاح والميدان وشريحة ضئيلة من أتباع عمه، والثاني يملك الاسم والذاكرة وشريحة واسعة من أتباع والده.
هذا الصراع غير المعلن يفسّر كثيرًا من سلوك طارق: الاستعراض المستمر للقوة، توسيع النفوذ، ومحاولة تثبيت نفسه بوصفه الوريث الأقوى لا الوريث الشرعي فقط.
أما أخطر ما يُتداول — ويجب تسجيله بدقة قانونية — فهو مرويات عن مشاركة عناصر تابعة لطارق في التحركات العسكرية الأخيرة للانتقالي باتجاه سيئون. إن صحّت هذه المرويات، فنحن أمام انتقال نوعي في الدور: من قائد جبهة إلى أداة اختراق لعمق الدولة، ومن وظيفة عسكرية محدودة إلى دور تفكيكي واسع يتجاوز الساحل الغربي.
عسكريا، طارق لا يخوض حربًا حقيقية مع الحوثي. الجبهة مجمدة، العداء لفظي، والاشتباك مُدار بما يمنع الحسم. هذا التعايش غير المعلن يخدم الجميع إلا اليمن: الحوثي يستفيد من تجميد الجبهة، الراعي الإقليمي يضبط الممرات والمواقع، وطارق يبقى فاعلًا بلا مخاطرة.
نفسيًا، طارق أسير ثلاث عقد مركبة: عقدة الحارس الذي لم يُدرَّب على الحكم، عقدة الناجي الذي لم يُحاسب على النجاة، وعقدة الوريث الذي يخشى انتزاع الاسم والمكانة. هذه ليست عقد قيادة، بل عقد وظيفة، ولا تنتج رجل دولة، بل قائدًا يبحث عن تثبيت موقعه بأي ثمن.
وخلاصة الحديث: طارق صالح ليس امتداد دولة ولا مشروع مرحلة ولا رجل تسوية، بل إعادة تدوير للانقلاب بواجهة جديدة، وقوة بلا وطن، وتنمية بلا سيادة، وسلاح بلا عقد اجتماعي. قوته حقيقية لكنها مستعارة، ومشروعه قائم لكنه غير يمني، وحين تُدار الجغرافيا كوظيفة، ويُفصل السلاح عن الدولة، وتُستبدل الوحدة بالرضا الخارجي، لا نكون أمام قائد صاعد، بل أمام مرحلة تفكك عميقة تتخفّى بثوب القوة، وتؤجل الانفجار دون أن تمنعه.
*نقلا عن حائط الكاتب في فيسبوك.