كلام للعقلاء
الأحد, 21 ديسمبر, 2025 - 07:37 مساءً

الرئيس رشاد العليمي يُمثل، في رأيي، أفضل تعبير عن السلطة الشرعية في هذه المرحلة، وهو الأقرب إلى القادة الجنوبيين من حيث تفهمه واستيعابه العميق للقضية الجنوبية، وإيمانه بالحل السياسي العادل والشامل لها.
 
قد يرى البعض في كلامي هذا محاولةً لتبرئة الرجل وسلطته من إخفاقات سياسية واقتصادية حصلت خلال الأعوام الفارطة ، بل إن هناك من أطلق أحكامًا مسبقةً نحوه بدوافع شخصية أو عصبية أو جهوية.
 
لكن الواقع يقول إن العليمي ورفيقه بن حبريش لم يظهرا من فراغ، بل هما نتيجة أفرزتها الحرب الدائرة منذ ما بعد الانقلاب على الدولة: رئاسةً، وحكومةً، ومؤتمر حوار، ومضامين ودستور كان في طريقه للإقرار والاستفتاء عليه من اليمنيين.
 
وكما برزت القضية الجنوبية بحراكها، ثم بمقاومتها، وبتجسيداتها عبر عيدروس الزبيدي وشلال شائع وبن بريك والمحرمي والبحسني والعولقي والانتقالي وفروعه ؛ فقد برزت في المقابل أسماء وكيانات وقنوات أخرى تحمل مسميات مختلفة وتتباين في ولاءاتها ومواقفها.
 
كما أن فصيلًا جنوبيًا يرى أن المشكلة في "هضبة شمال الشمال"، وأن الحديث عن دولة اتحادية يعد حديثًا مثاليًا لا قيمة له في ظل سيطرة الحوثيين على أغلب محافظات الشمال.
 
بل إن بعض الجنوبيين دعا النخب الشمالية إلى توحيد جهودها لاستعادة الدولة في الشمال، بدلًا من انشغالها بمعارك هامشية ضد مكونات جنوبية أو ضد السلطة الشرعية نفسها.
 
 بعد تحرير عدن، كنتُ أرى في حزب الإصلاح، والنائب السابق علي محسن، وحميد الأحمر، وكل من وقف مع ثورة فبراير، "حلفاء ضرورة" في تلك المرحلة.فأعتبر البعض ما كتبته ارتكاسة وخيانة للقضية الجنوبية.
 
وقد أوضحت هذا الموقف للقائد عيدروس الزبيدي عندما كان محافظًا للعاصمة المؤقتة عدن، ونصحته بالتوافق مع شركاء المرحلة، انطلاقًا من كون اليمن جمهوريةً ديمقراطيةً تعدديةً، وليست سلطنة أو إمارةً وراثية.
 
وأشرت الى نزوح القيادي المعروف وعضو البرلمان وابن عدن انصاف مايو إلى مأرب ، لا لشيء غير أنه منتميًا للإصلاح المؤيد لثورة الشباب وللحوار الوطني ولنتائجه الموضوعة كإطار عام لإقامة دولة اتحادية فيدرالية .
 
مكافحة الإرهاب تبقى بلا شك أولويةً قصوى، ولا غضاضة في طلب الدعم الإقليمي والدولي لاجتثاث هذه الجماعات المتطرفة.
 
لكن هذا لا يعني بحالٍ استغلال ذلك الدعم في حروب ثأرية ضد خصوم الأمس البعيد الذين لم يعد لهم وجود في الواقع ، أو ضد من يختلف معهم سياسيًا ، كما حدث خلال السنوات الماضية من اغتيالات طالت شخصيات سياسية ودينية واجتماعية بارزة.
 
فقد كانت تلك الاغتيالات جرائم منظمة نُفذت تحت غطاء الدولة وباستخدام أدواتها، ولا صلة لها البتة بمحاربة القاعدة أو داعش أو غيرها من الجماعات الإرهابية الضالة المعروفة وطنيًا ودوليًا بانحرافها فكرًا وممارسة.
 
لطالما قلت: "عدو عدوك صديقك". لكني أرى اليوم من يتخلى عن حليف الضرورة ليمد يده إلى فصيل يرفض حتى مناقشة فكرة الدولة الاتحادية، ويعتبر الثورة مؤامرة، ولم يبدِ حتى اللحظة أي مؤشر على قبوله بمشروع الدولة الفيدرالية.
 
لذلك، أرى أن على القائد عيدروس الزبيدي ورفاقه التوقف عن تقديم أنفسهم كسلطة شرعية للجنوب، أو كـ"رئاسة " للدولة الجنوبية ، فهم ما زالوا شركاء في السلطة الشرعية المعترف بها لليمن الموحد ، وأي محاولة للخروج عن هذا الإطار ليست سوى هروبًا من الاستحقاقات السياسية المتفق عليها، والتي تحظى بدعم عربي ودولي واسع.
 
السؤال المهم هو: ما الحل لهذا الشتات الذي مزَّق وأضرَّ باليمن والجنوب وبالشرعية وبعدن وحضرموت ومأرب والمهرة وغيرها؟! .
لقد دعونا منذ تحرير عدن إلى "شراكة الضرورة". ففي عالم السياسة لا وجود للمطلق : لا حلال مطلق ولا حرام مطلق ، ولا صداقة ولا عداوة دائمة ، وإنما فيها مشتركات ومصالح متقاطعة ، ومتى توافرت هذه الأشياء ، فينبغي على السياسي أن يمتثل لها رغمًا عنه.
 
فالإصرار على أن الحل الوحيد هو باستعادة الدولة الجنوبية ، أو العودة إلى نظام ما قبل 2011، لن يحقق أيًَّا من الخيارين . ولا بد اليوم من فتح النقاش حول كل الخيارات المطروحة: دولة اتحادية ثنائية، أو متعددة الأقاليم، أو إعادة بناء الدولة اليمنية وتحريرها من سيطرة الحوثيين، بل وحتى فك الارتباط كخيار أخير.
 
لأولئك الذين يواصلون الهجوم على الرئيس العليمي ليل نهار: لن تجدوا من هو أكثر منه تفهمًا واستيعابًا لقضايا الجنوب . اجلسوا إليه ، حاوروه، توافقوا معه على حلول موضوعية بعيدًا عن الشطحات الخطابية والعنترية السياسية.
 
فليكن شكل الدولة الاتحادية: إقليمين، أربعة، أو ستة، موضوعًا للنقاش المسؤول الآن، هذا خيار عقلاني واقعي، وهو أفضل بكل المقاييس من الانجراف نحو مجهول دموي أو فوضى عارمة تبتلع الجميع.
 
ربما يبدو الطريق اليوم شائكًا ، والثقة مهزوزة، والجروح غائرة. لكن التاريخ لا يرحم من يغلقون الأبواب، ويجازي من يفتحون نوافذ الأمل حتى في أحلك اللحظات.
 
اليمن، بشماله وجنوبه، أمام مفترق مصيري: إما حوارٌ جادٌّ يبني، أو صراعٌ عبثيٌّ يهدم . والعقلاء وحدهم من يختارون في لحظات الحسم ، لغة العقل بدلًا من صراخ العاطفة ، وبناء الجسور بدلًا من حفر الخنادق.
 
فالوطن أكبر من أي اسم أو حزب، وأغلى من أي إنتقام، وأقوى من أي تشظٍّ. لنكن عند مستوى المسؤولية، ولنكتب فصلنا القادم بأقلام الحكمة، لا بأسلحة الغضب.
 
*نقلا عن حائط الكاتب في فيسبوك.
 

التعليقات