حين علم أعمامي بوفاة جدتي عزيزة في " بني مسعود " جمعوا أمرهم وتحركوا في عدة سيارات.
ما إن رأيتهم يستعدون حتى لبست أفخر ثيابي، لقد قررت الذهاب معهم، كنت طفلا حينها، ركبت السيارة فأنزلوني، وما إن تحركت السيارات حتى لحقت بالسيارة الأخيرة وتعلقت بها، وحينها أوقف عمي شاكر السيارة وعاد إلي متوعداً:
ــ ارجع يا كلب.
رجعت مكرها.
ثم شيعت السيارات بنظري ودموعي تتساقط حزناً حتى غابت بعيداً.
النسوة من أقاربنا وجيراننا تجمعن في منزلنا انتظاراً لوصول جثمان جدتي التي لا أعرفها.
لم يعودوا في تلك الليلة، وفي مساء اليوم الثاني عادوا ولكن بدون جثمان جدتي، قال عمي:
ــ لقد دفنوا العجوز هناك قبل وصولنا.
وأضاف:
ــ إكرام الميت دفنه، الله يرحم عمتي ويسكنها الجنة.
فوجئنا بأنهم جاؤوا بولد يكبرني قليلا، ومعه حقيبة فاخرة، قال عمي:
ــ هذا أكرم حفيد المرحومة، تعالوا سلموا عليه.
وقفنا صفاً نصافحه.
كان صامتاً حزيناً لا يكلم أحدا، جاءت أمي وجعلت تلاطفه وتواسيه حتى نطق:
ــ حزين على جدتي عزيزة. لن أراها بعد اليوم.
ــ جدتك عزيزة بالجنة، وكلنا أهلك.
وجعلت تربت عليه وتواسيه.
بعد أيام العزاء غادر أكرم حزنه، وحين بدأ يلعب معنا، حذرنا عمي:
ــ الذي سيزعل أكرم حتى بكلمه سأعلقه في الشجرة، وأكسر عليه العصا.
كان عمي شاكر يمضغ قاته في الطابق العلوي ويبقي النافذة مفتوحة لمراقبتنا ونحن نلعب مع أكرم.
كأنه ابن الرئيس، الجميع يدللونه، نمضي برفقته للدكان في القرية المجاورة فيشتري لنا جميعا الحلوى والعصائر من نقوده الكثيرة.
بعد أن أشترى كرة جديدة فوجئنا بعمي يأتي بعمال ليجهزوا لنا ملعبا كبيرا مفروش بالرمل.!
ــ من متى عمي يهتم بهذه الأشياء؟!
عمي لا يفطر إلا مع أكرم، يصب له العسل، ويطعمه أحياناً بيده، ويحرص على تغذيته، ويجعل النساء يجهزن له الكعك الفاخر.
لقد تفرغ تماما لرعايته وتدليله.!
وحين يسأله الناس عن سر اهتمامه العجيب بهذا الولد يجيب:
ــ ولد يتيم، مات جميع أهله ولم يبق له إلا نحن.
ــ يقولون لديه عم يعيش في السعودية منذ صغره.
ــ صحيح لكن عمه هذا لا يعرفه، ونسي اليمن تماماً بعد أن حصل على الجنسية السعودية.
ويضيف عمي:
ــ لم يأت عمه حين ماتت والدته الله يرحمها، فهل سيأتي لأجل هذا الطفل؟!
وحين بدأ العام الدراسي ذهب عمي إلى مدينة إب واشترى لأكرم أفخر الأدوات المدرسية، ودراجة جديدة، وبذلة فاخرة، بينما اشترى لنا الدفاتر من دكان صالح عبده بالقرية.!
كنا نحسد أكرم على تدليل الجميع له والنقود التي يمتلكها، لكن لطيبته وكرمه معنا أحببناه.
بعد أشهر من بدء الدراسة داهمت منطقتنا الزلازل، وكثرت الشائعات عن انفجار بركان كبير سيغرق المنطقة ويحولها إلى جحيم.!
جاءت شاحنات توزع الخيم والبطانيات.
تجمع الناس بجوارها وتحول الأمر إلى فوضى كبيرة.
حصلنا على خيمتين وعشر بطانيات.
في المساء أعددنا الأرض ونصبنا خيمة قرب منزلنا لننام فيها، وفي أول ليلة نبيت فيها بالخيمة هاجمنا البعوض بشدة، ولخوف عمي الشديد على أكرم ما إن بدت تباشير الصباح حتى استأجر سيارة وغادر برفقته إلى مدينة إب ليجري له فحوصات طبية، ويأخذ له جرعة وقاية من الملاريا، بينما تركنا لمصيرنا.!
ولم يكتف عمي بهذا بل لقد أشترى له سريرا جديدا، وبطانيات فاخرة وناموسية، وكان يبيت يحرسه في الخيمة خوفاً عليه من العقارب والثعابين، يغفو في النوم ثم يصحو مذعوراً، ويطمئن عليه ثم يغفو من جديد.!
وحين ذهبنا للسباحة في السد ترك عمي مقيله وجاء ليحرس أكرم حتى لا يغرق.
ذات مساء وبينما كنا نلعب الكرة بجوار المنزل سمعنا مشادة كبيرة بين عمي شاكر وبقية أعمامي، كل واحد منهم يريد أكرم يعيش في منزله.
كان الناس حينها يعرفون السر، لكننا لم نعلم إلا بعد سنوات، عندما كبرنا.
في الأخير اتفق عمي مع اخوانه على أن يبقى أكرم لديه هذا العام، وفي نهايته يختار هل يبقى عنده بشكل دائم؟ أم يذهب أي منزل من منازل أعمامي؟
لكن الذي حدث قبل نهاية العام لم يكن يتوقعه أحد.!
لقد جاء عم أكرم من السعودية، ولم يكد يصل " بني مسعود " حتى سأل عن نجل أخيه، وحين علم بوجوده عندنا توجه إلينا فوراً.
فوجئنا بوصوله في سيارة فارهة مليئة بالهدايا الفاخرة لأكرم ولعمي، ولنا جميعا، ولم تمض سوى ساعات حتى كان الكثير من أهالي القرية يتجمعون في منزلنا لمعرفة هذا الضيف الغريب.
زوجته وأولاده كانوا كأنهم من أسرة ملكية، أجسامهم وملابسهم وأناقتهم جعلتنا نصاب بإحراج شديد ونتساءل:
ــ هؤلاء أين سنجلسهم؟!
ــ وماذا سنقدم لهم من طعام؟!
ــ هل يأكلون مثلنا؟!
ومرت الأمور على خير، لقد تواضعوا كثيراً، وجلسوا معنا وأكلوا من طعامنا.
واندمج أكرم في الحديث مع ابنة عمه " مشاعل "، حتى أننا أيقنا حين رأيناهم يدخلون ويخرجون ويتحدثون سويا بأن أكرم راحل عنا لا محالة.
كانوا كعصافير خلقوا لبعض.
في اليوم الثاني جاء أعمامي لرؤية ابن عمتهم، وفي نهاية المقيل فوجئوا به يطلب منهم الاستئذان وأن يعود ومعه أكرم:
ــ يا جماعة أنا رجعت بأهلي من السعودية لأجل أربي ولد أخي وأحافظ على أملاكه.
وأضاف:
ــ أنا ضحيت بوظيفة في مكتب الأمير متعب من أجل ولد أخي.
أسقط في يد عمي شاكر وانهارت كل خططه دفعة واحدة، لم يدر ماذا يقول؟!
خاصة وقد أكرمه قريبه هذا بهدايا فاخرة ألجمت لسانه، إضافة إلى أن الحق معه، والعم أولى بولد أخيه من بقية الأقارب.
ــ نخيره وهو الذي يختار.
هكذا اتفق أعمامي مع قريبهم الذي وافق على هذا المقترح.
ونادوا أكرم الذي جاء إلى المقيل.
ــ يا أكرم عمك جاء ليأخذك معه، هل ستذهب معه أم تبقى عندنا؟
ــ سأذهب مع عمي.
حسم أكرم الأمر.
ورأيت وجه عمي كيف كان كالقمر الذي أصابه الكسوف الكامل، وغشاه العرق، وأجتاحه حزن لا يعلمه إلا الله.
عاد أكرم من المقيل وشرع يوزع علينا ألعابه ونقوده، ثم ودعنا وركب السيارة مع عمه وأسرته، وظل يلوح لنا بيده حتى اختفت السيارة عن أنظارنا.
بعد أن مضوا كان عمي يصيح:
ــ 12 وادي راحوا علي، كنت قد قررت أن أزوجه بنتي ليلى وأشرف على أملاكه.
ــ يعني كل شيء راح بعشية وضحاها؟
ــ يعني الولد نسي كل شيء لما شاف بنت عمه؟
ــ أنا ما تخيلت أن يرجع عمه أصلاً لأجل يكوش على كل شيء.
كان يصرخ بهستيريا ويدق صدره ندماً، فيما أعمامي وجدتي يواسونه، وكنا نكتم ضحكنا على عمي، حتى إذا ابتعدنا عنه ضحكنا بكل براءة رغم حزننا على فراق أكرم الذي مر علينا مثل الحلم الجميل سرعان ما أفقنا منه.
كان عمي هو الوحيد الذي تحولت أحلامه إلى كوابيس.!