مع اقتراب وقت الظهيرة، صعدت على أحد الباصات، باتجاه جامعة صنعاء. ساقتني الصُدفة للجلوس بجوار أحد الشباب من ذوي البشرة السمراء "المُهمشين"، يبدو في منتصف عقده الثاني من العمر، كانت تبدو عليه ملامح التعب والإعياء بعد ساعات متواصلة من العمل.
من ملامحه يبدو وكأنه يعمل في مجال البناء، كون مخلفات الأحجار "المناشير" كانت ظاهرة على ملابسه التي يرتديها. مَضَى الباص في طريقه، وبعد نحو ربع ساعة أوقفه الشاب؛ كونه وصل إلى المكان الذي قَصَده. نَزَل الشاب وسارع بإخراج الفلوس من قميصه؛ لإعطاء صاحب الباص أجرته.
تأخّر الشاب بعض الشيء؛ نتيجة البحث عن النقود في جيوب بنطاله الذي يرتديه وهي متعددة دون أن يعرف بالضبط المكان الذي وضعها فيه. سارع أحد الركاب بتنبيه صاحب الباص بأن عليه المشي، وهو سيتكفل بالحساب. بينما ألمح آخر إلى هذه الشريحة ليست متعودة حساب أجرة الباص، لامتهان الكثير منهم مهنة التسول.
لم ينتظر الشاب كثيرًا حتى سارع بالرد على الراكب الذي كان بجوار السائق بالقول: "أنا خادم من شَمير"، قالها بفخر واعتزاز أنه مهمّش؛ لكنه ليس متعود على التسول كما هو حال بقية المهمشين في منطقته "شمير" بمحافظة تعز، الذي قال إنهم يأكلون بعرف جبينهم، بعكس مهمشي (...)، الذي قال إنهم يمتهنون التسول، وبات الجميع يعمم عليهم هذه الفكرة.
كان الشاب يتحدث بصوت مرتفع، وعيونه محدقة باتجاه ذلك الراكب، داعيًا سائق الباص للانتظار حتى يجد الفلوس، وهو ما كان، حيث أعطى السائق مبلغًا من المال ثم أخذ المبلغ المتبقي له، وخلال فترة الانتظار لبقية المبلغ صرخ قائلا: "بفضل الله علمني والدي ألا أكل إلا من شقى يدي، وأن أعيش بشرف، وأن أعطي، وأن لا انتظر العطاء من أحد".
وأضاف: "صحيح أنا أسود مُهمّش؛ لكن كرامتي لن أسمح بإهانتها، ولو كلفني ذلك حياتي، فضلا عن الفلوس التي أذهب للعمل ليل نهار، وأضعها تحت قدمي.."، وقال: "كرامتي أشرف من أن تُدنّس بمبلغ من المال، يحاول البعض إهانتي به، لمجرد بشرتي السوداء التي بات ينظر لها موضع الشفقة والإهانة".
كانت كلمات ذلك الشاب بمثابة رصاصات مزّقت أحشاء الحاضرين بمن فيهم ذلك الشاب الذي سارع للاعتذار منه، لكنه أكد أن صراخه ليس على ذلك الموقف فحسب؛ بل على ظاهرة مجتمعية بات يعاني منها والكثير من قرناءه المهمشين الذي قال "إنهم يعانون التمييز، وتعميم فكرة أن كل صاحب بشرة سوداء متسول وغير قادر على العمل".
ما إن مضى الباص، حتى سارع الجميع يتحدثون بإكبار عن هذا الشاب الذي كسر الصورة النمطية عن شريحة مهمة في المجتمع اليمني وهم المهمشين، حيث بدا ذلك الشاب وكأن أزاح من أعينهم الغطاء الذي رُسمه المجتمع عن هذه الشريحة ورسموه ربما لأنفسهم بطريقة أو بأخرى، وهم بحاجة لمثل هذا الشاب للمضي نحو إدماجهم في المجتمع، ونيل حقوقهم المكفولة دستورًا وقانونًا.
وصلنا إلى المكان الذي قصدناه بجوار جامعة صنعاء، سبقني أحد الشباب للنزول، وأعطى السائق مبلغ 1000 ريال، فأخبره السائق عدم وجود صَرْف ليعطيه بقية المبلغ، وكنت أملك في جيبي مائتي ريال، أعطيتها السائق عني وعنه، فرد عليّ بالقول: "عفوًا أنا من شمير"، فضحكنا جميعًا برفقة السائق قبل أن يذهب كلا منا في حال سبيله، وهو يتمتم: "أنا خادم من شمير".
_____________________
*خادم: مصطلح يمني، يطلق في اللهجة الشعبية على فئة المهمشين، من ذوي البشرة السوداء.
*شمير: مديرية في محافظة تعز، جنوب غربي اليمن.