يشغل بال الكثيرين مسألة وجود علاقة فكرية، أو صلة/أرتباط واضح بين المجنون والشاعر والفيلسوف، وهل ينحدر كل هؤلاء من عائلة واحدة؟!
هل علينا أن نساند القول الشائع بوجود علاقة مشتركة إلى حد ما بين الإبداع والجنون، ماذا إن كانت تلك المساندة تعني خطورة أن يصبح مفهوم الادب والفن وكذا الفلسفة فاقداً للاهمية كقيمة فنية وإبداعية وإنسانية.
في حديثنا عن هذه النقطة الجدلية، فقد لعبت المدرسة الرومانسية في القرن التاسع عشر الدور الواضح في إخراج عدد من المبدعين والشعراء - وربما كبار الروائيين في الفترات اللاحقة التي تلتها- من أجواء العزلة والكآبة النفسية التي عاشوها، فبرزت أسماء كبيرة في سماء الشعر الرومانسي جميعهم عانوا من الكآبة النفسية والتشرد حتى آخر أيامهم.
مع ذلك يؤكد ناقدون على قدرة هؤلاء الشعراء على استخدام مجازات "الجنون" بطرق مبتكرة للتعبير عن تفسير أكثر وعي للتفاعل بين الكآبة والعملية الإبداعية، ومن أبرز هؤلاء الشعراء جون كيتس وكوليردج وغيرهم.
هذا ولم يتقدم الخطاب المعروف حول العلاقة بين الابداع والجنون منذ ما بعد الرومانسية. وعلى الرغم من الدراسات النفسية التي تُظهِر وجود علاقة معقدة بين الجنون والابداع، فأنها تبدو أفكار مقبولة ولا تزال تشكل نمطاً ثقافيا شائعاً.
تاريخياً تبادل الادب والطب بعض البديهيات لفهم العلاقة بين الإبداع والكآبة النفسية، والتفاوض على معجم يمكن للأدباء والفنانين والمبدعين ذوي الاكتئاب التعبير به عن تجربتهم. مع ذلك ظلت الاشكالية كما هي.
ويبدو أن سوء الفهم العلمي، أو المفاهيم الخاطئة لمصطلح "الجنون" غالبا ما تبدو هي المشكلة الاكثر جدلية في فهم العلاقة بين الجنون والابداع.
وتشمل هذه المفاهيم الخاطئة، التساؤل أين تقيم العبقرية وأين مصدرها، هل تقيم في اللاوعي أو الوعي؟ كما أن البنية الثقافية لهوية "الشاعر المجنون" ، مع إضفاء الطابع المثالي عليها باعتبارها "ذات قيمة فنية" يعد أكبر هذه المفاهيم الخاطئة.
في فقرة مشهورة من كتاب الجمهورية يتحدث افلاطون عن "شجار قديم" بين الشعراء والفلاسفة. لكن عندما يكون الاهتمام الأسمى للفلسفة هو معرفة الحقيقة والتأمل فيها، كما يخبرنا أفلاطون، فإن الشاعر يهتم في المقام الأول بالتقليد وتقليد التقليد. وإذا كان الشعر تجسيداً تخيلياً للعالم المعقول، فيعد بثذلك نشاطاً من الدرجة الثالثة، يتم إزالته مرتين من الواقع النهائي للأشكال. مع ذلك يعترف أفلاطون بقدرة الشعر على التحدث إلى العنصر المليء بالحيوية في أرواحنا وإثارة المشاعر، وهذا هو بالضبط سبب قلقه الشديد من أن: الفن المُلهم، فن "الجنون الإلهي". ولا يخفى علينا مقدار ما يلعبه الشعر، مثله مثل جميع الفنون، في التأثير على سلوكنا وتشكيل معتقداتنا حول الواقع.
يقول كوليردج " ما من شاعر عظيم إلا وكان فيلسوفاً عظيماً"، وهذا القول يذكرنا بإستحالة أن نتخيل إمكانية الفصل بثقة مطلقة بين الشعرية والفلسفة عند أي شاعر. فالكثير من الأسماء الكبيرة جمعت بين الشعر والفلسفة.
كان أفلاطون نفسه شاعراً، على الرغم من أنه وضع مرماه على هوميروس وهسيود في الجمهورية وأماكن أخرى. أما غوته فكان مُشككاً في فلسفة هيجل، رغم أنه لم يستطع فهمها. فهل يمكننا القول أن هذه الاسماء قد جمعت بين الشعر والفلسفة.
انطلق ماركس كشاعر وروائي وانتهى به المطاف فيلسوفاً، في حين أن ت. اس. إليوت كتب أطروحتة لنيل الدكتوراه، في الفلسفة قبل أن يصبح شاعراً مشهوراً.
يقول إليوت: "لست شاعراً ولا فيلسوفاً، لكن لدي حب كبير لكل من الشعر والفلسفة. كتبت قدراً كبيراً من الشعر قبل المدرسة الثانوية، قلدت فيه أسلوب أي شاعر كنت مغرمًا به مثل: هومر ، ودانتي ، وميلتون ، ووردزورث ، ولونجفيلو ، ورايلي ، وييتس ، وآخرين. "
بحسب توماس كوينس أن "الشعراء والفلاسفة متشابهون في كونهم كباراً حد الدهشة". قد نتفق مع هذا القول لأن الشعر والفلسفة ينشآن من دوافع إبداعية طبيعية، كما يجعلانا أكثر إحساساً بالرهبة من التجربة الإنسانية.